Thursday 6 June 2019

الاستبعاد في العمل الوطني





أظن– وليس كل الظن إثما– أن عاقلا مهما كان انتماؤه الفكري والسياسي، وخاصة في الدوائر التي تتوزع بين مرجعيات وطنية قومية وأخرى وطنية ليبرالية وثالثة وطنية ماركسية، يختلف على المضامين التي احتواها خطاب الرئيس السيسي في القمم الأخيرة، وبمناسبة ليلة القدر.. ذلك أن الخطاب تضمن تشخيصا محددا جامعا للواقع العربي، وخاصة من جهة مهددات الأمن القومي وتشخيصا بالدقة نفسها لواقع المسلمين، واحتواء المحددات العملية التي تكفل مجابهة كل تلك التحديات.. وهنا وقبل أن أستطرد قد يرد سؤال على ذهن بعض القراء وهو: لماذا استبعد الكاتب من ينتمون أو يصدرون عن مرجعية دينية؟!.. والإجابة الصريحة الواضحة من وجهة نظري أن التجربة العملية التي عشناها مع أصحاب تلك المرجعية، وأزعم أن لي تجربة غنية معهم، امتدت من مدرجات الجامعة وملتقياتها وحواراتها ومظاهراتها إلى ردهات وأحواش السجون، ثم إلى رحابة ندوات ولقاءات المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي – الإسلامي.. وعشرات الحوارات والمشاركات في لقاءات وندوات ضمن فعاليات الحياة السياسية والفكرية المصرية.. وأشهد بضمير مستريح أن من بينهم علماء في تخصصاتهم ومثقفون بوجه عام لديهم أطروحات لا يمكن نظريا الاختلاف معها أو الخلاف عليها، ولكن وفي التجربة العملية، وخاصة بعد أن شاءت الأقدار وصولهم إلى مكامن السيطرة على الحراك السياسي المصري في ميدان التحرير والميادين الأخرى، ثم الجلوس على أريكة الحكم.. حكم مصر وبعض الدول الأخرى فإن ذلك "النظري" الذي لا يمكن الخلاف أو الاختلاف معه وعليه طوي ووضع على رفوف الذكريات وحل محله محتوى ومضمون آخر لحمته السيطرة والانفراد وسداه رفض الآخر ونفيه فكريا وسياسيا وحركيا، ثم تأتي الطامة الكبرى وهي نفي الوطنية كأرضية أساسية تنطلق منها أية مرجعية.. وعشنا وشفنا وسمعنا ورفضنا علنا ما قاله مرشدهم عاكف "طظ في مصر"!!.. ولذلك فإنني متأكد أن لدى أصحاب المرجعية الدينية المتأسلمة مفهوم مغاير للأمن الوطني والقومي ومضمون مختلف لما يجب أن يكون عليه تفكير وخلق ومسلك المسلم ذكرا كان أم أنثى.. وعليه فإن أي حديث عن الوطنية من منظور قومي أو ليبرالي أو ماركسي يحتم استبعاد ذوي المرجعية الدينية، ليس على أساس نبذ الآخر ونفي وجوده والعدوان عليه، ولكن على أساس أن الطرح الوطني لا يتسق مع قناعاتهم ولا أفكارهم ولا ممارساتهم والشواهد العملية المعاشة على ذلك كثيرة، قد يصعب حصرها ويكفي مثل صغير جدا هو الموقف من تحية العلم الوطني في طوابير الصباح بالمدارس!! ولقد أيقظ هذا السياق كثيرا من الأمور في ذهني، إذ تذكرت على سبيل المثال وليس الحصر حوارا تلفزيونيا جرى بين الطبيب عصام العريان وبيني على قناة "الساعة" وأداره الزميل النائب مصطفى بكري، واستمر على مدار ساعتين وأذيع في حلقتين، وكان ذلك الحور امتدادا لما سبق من حوارات بين العريان وبيني ولما تلى ذلك من حوارات، ولأن نص الحوار موجود على أسطوانات مدمجة ومحفوظ في أرشيف ما يعرف بـ"اليوتيوب" فلا مجال للتفصيل فيه، مثلما أنه لا مجال للاختلاق واصطناع ما لم يحدث، ومما حدث أن العريان عندما وصلنا لنقاش حادث المنشية الذي وقع عام 1954 وفيه حاول الجهاز السري للإخوان اغتيال جمال عبدالناصر وهو يخطب في ذلك الميدان، أنكر عصام العريان ضلوع الإخوان وأكد أن الأمر كان تمثيلية فبركها عبدالناصر ورجال الثورة لأجل الفتك بالإخوان، وبدأ الحوار يسخن لأنني سألته: "أنت كطبيب.. ألست تسأل المريض عن تاريخه وتاريخ أسرته المرضي لتحاول أن تجد ما يساعدك في التشخيص؟ وأجاب بالإيجاب.. بلى.. وسألته: بالنسبة للحالة الإخوانية أليس في تاريخها ما يثبت جنوحها للعنف ولسفك الدم وقتل الخصوم مثل الخازندار والنقراشي؟!.. ثم سألت: هل يمكن لبشر سوي النفس راشد العقل أن يتخيل شابا في السادسة والثلاثين من عمره، ويقود ثورة وبلدا بحجم مصر، ولديه أسرة صغيرة مكونة من زوجة وأربعة أولاد من بينهم ثلاثة يميزون ما يحدث أمامهم وما يسمعون، ثم يذهب ذلك الشاب إلى أن يستأجر أو يتفق مع من يحمل مسدسا بذخيرة حية ليطلق عليه النار وهو يعلم أن أسرته تتابع ما يجري لحظة بلحظة؟!.. وأسئلة أخرى وقبل أن ينتقل طرف الحديث للعريان كانت القناة التلفزيونية، أو مدير الحوار قد استدعى شاهدا معاصرا للواقعة ليتداخل في الحوار، وهو المغفور له المستشار فتحي رجب الذي قال إنه كان وكيلا لنيابة المنشية موقع الحادث وأنه هو من حقق، وأن المسدس كان حقيقيا والذخيرة حية قاتلة وأذاع حقيقة لم تكن معروفة على نطاق واسع وهي أن هناك اثنين من القتلى أو الشهداء في الواقعة أصابهما رصاص الجاني وذكر اسميهما!! وبعد كل ذلك وأثناءه كان العريان يبتسم وأحيانا يضحك والأخطر أنه ظل مصرا على أن الحادث كان مفبركا!!

وخلال سنين كثيرة كان الرجل يبدو دوما متفهما للتعددية وللتعاون بين التيارين القومي والإسلامي، وأنهم عازفون عن السلطة ولا مطمع لهم فيها.. ثم حدث ما لم أتوقعه، إذ سمعت الرجل وهو يقدم نفسه بعد يناير 2011.. عصام العريان رئيس مصر القادم!! ثم كانت الغطرسة والتعالي ومصادرة الآخرين من البلتاجي في ميدان التحرير ومن غيره في غير مكان، وما زلت أنفعل كلما تذكرت.. ما جرى بين عصام سلطان وبيني على شاشة القناة الأولى المصرية، عندما اضطر التلفزيون لقطع الإرسال.. وذلك حديث آخر.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 6 يونيو 2019.

No comments:

Post a Comment