Wednesday 19 June 2019

المسامح الكريم





"تشريبة" ثم نواصل.. والتشريبة اسم يطلقه فلاحو بعض مناطق الدلتا المصرية على الوقت المقتطع لقليل من الراحة من يوم العمل في طقس بؤونة الذي يفلق الحجر، حتى يلتقط "التملِّيّة"– تاء وميم مفتوحتان ولام مكسورة وياء مشددة مفتوحة– أنفاسهم ويشربون الماء من القلل والبلاليص- إذا كانت موجودة- ليتدفق من حلقها الماء في فم الشارب وعلى وجهه وصدره، وإذا لم تكن موجودة يقترب العطشان من حافة الترعة وينطر الماء منها بكفه تجاه فمه، أو يتمدد على بطنه ليشرب بفمه مباشرة، وإذا صادفه بعض الريم أو العفش على وجه ماء الترعة أبعده بيده، وعليه ألا ينتبه أبدًا لرائحة العطن أو لأبي ذنيبة– "طور من أطوار نمو الضفدعة"– السابح بالعشرات! وإذا سمح الوقت والإمكانيات فإن التشريبة تصبح فاخرة بالشاي ثقيل التلقيمة شايًا وسكرًا وغليانًا!

وللتشريبة عند أطرافها قواعد، لأن الأنفار- أو التملِّيّة- يريدون زيادة وقتها أو تكرارها لمرتين، إحداهما بين بدء العمل قبل الشمس وبين تناول الغداء عند الظهر.. والثانية قبيل العصر، فيما صاحب العمل- أو الخولي الذي ينوب عنه- لا يريدها إلا قصيرة سريعة ولمرة واحدة، وعليه فإن القاعدة هي أن يكفي وقتها لشرب المياه والشاي وفرد السيقان في الظل!

وقبل أن أنسى فقد حاولت البحث عن أصل ومعنى كلمة "تملِّيّ" وهو العامل الزراعي المعدم الذي يعمل باليومية في الحقول أو يعمل بالشهرية أو الموسمية لدى غيره.

ويبدو أن لها معاني متعددة، فهي في لهجة المدن تعني "دايما وعلى طول.. وفي كل وقت"– تملي معاك– وهي في لهجة الريف قد تعني من يتلقى الإملاء- أي الأوامر المملاة عليه- ويعمل على تنفيذها دون مناقشة، وقد كان الأمر لذلك العامل يأتي بصيغة "يللا.. اتملى خطك"، أي ابدأ العمل في خط جني القطن أو نقاوة الدودة أو غير ذلك.. وصار الاسم في التراث الشعبي وعند كل الناس كناية عن السخرة والشقاء! فيقال احتجاجًا "حضرتك فاكرني.. تملِّيّ عند اللي خلفك"!

تشريبتي اليوم سببها أنني في مقال سابق شطحت، فجاء الشطح عند البعض إساءة تستحق الحذف.. وقد وجدت، وإنني أنوي في فترة قصيرة مقبلة أن أكتب كلامًا ثقيلًا في مسألة مدى جواز صرف النظر عن "تاريخ الصلاحية" السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبعض الأفكار والمناهج، ونحن بصدد بناء حاضر ومستقبل المجتمع! وما بين محذوف ومقذوف تعين أن أعود لجعبة أو مخلاة الذاكرة لأنبش وأنتعش، وما زلت أذكر التشريبة الرهيبة التي شاركت فيها فيما أنا صبي في السابعة، وقد حل الصيام أثناء موسم ضم "حصاد" القمح.. والقمح من النباتات التي يجب أن تُحصد بعد ارتفاع الشمس وتبخر الندي وأي رطوبة من على العيدان، ويؤدي ذلك إلى اشتداد صلابة وحدة الأشواك المدببة للسنابل التي تحوي الحبوب، وللحصاد آنذاك آلة يدوية أكبر من المنجل اسمها "الشرشرة"، يتم سن أسنانها عند الحدادين هي والمناجل قبل الحصاد، وينزل التملية من رأس الغيط وقد خلعوا الجلابيب وبقوا بقمصان الدمور المشدودة للوسط بـ"الشملة"، وهي حزام مجدول يدويًا من الصوف أو الكتان أو التيل، وتكون الهمة عالية عند ضربة البداية، إذ يميلون وهم وقوف منحنون على القمح الجاف المنتصب، وعندما تمتلئ القبضة اليسرى بالعيدان المضمومة– أي المحصودة– تفرغ على الأرض لتتراكم وتتحول إلى أغمار– جمع غمر أي حزمة- لتحمل الأغمار على الأكتاف بعد ذلك لتوضع أحمالا على ظهور الجمال التي تحملها إلى الأجران حيث النوارج– جمع نورج– جاهزة للدراس!

حل الصيام- كما أسلفت- وقبيل الظهيرة كان الأنفار قد فرهدوا من شدة القيظ والعرق ووخزات أشواك السنابل، فجاءت الإشارة الصوتية من خالي حلمي أن "يللا.. اطلعوا تشريبة شوية"! وما إن طلعوا ووصلوا إلى راس الغيط ارتموا تحت ظلال الجميز والصفصاف المزروعة على جسر الترعة العريضة نسبيّا، واسمها ترعة القطني القادمة من بسيون إلى الشمال، وكان الفلاحون يسمونها "البحر الخناق" لأسباب قد أذكرها لاحقًا.. وفيما الأنفار قد راحوا في تعسيلة نوم إجبارية، فرضها الجوع والحر والطراوة تحت الشجر، حتى جاءت الإشارة التالية من الخال الغالي، رحمة الله عليه.

وتقدم الذين عرفوا الشيفرة ليحمل كل اثنين منهم نفرًا من ذراعيه وقدميه وهيلا بيلا إلى المجرى المائي، فكنت كمن يسمع طشة حديد محمي متوهج في الماء.. وامتلأ البحر الخناق بالأنفار الذين كانوا يشهقون، ولما خرجوا استحلفوا بالله والنبي وسيدي إبراهيم الدسوقي وعيالهم.. "بذمتك.. ألم تشرب ماء"؟! ويجيء الرد ضعيفًا "والله غصبًا عني.. الميه اتسرسبت من حنكي لزوري.. وربنا عارف ومسامح كريم"!

وما زال في الجعبة ما يقال عن البحر الخناق وعن "شبراتنا" بلد الشواذلية– عائلة الشاذلي– التي كانت أرض أخوالي وأمي تقع في زمامها.. ولعلها تشريبة أخرى.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 يونيو 2019.

No comments:

Post a Comment