Thursday 26 September 2019

الجهالة الرأسمالية





لا يتعلمون الدرس أبدًا، ولذلك يتكرر منهج التعامل معهم، ولا يدركون وهم يصرخون متسائلين ببلاهة: لماذا سمعتنا في الوجدان المجتمعي سيئة؟ ولماذا نعامل بهذا الشكل؟ أن السبب هو أنهم لا يتعلمون!

إنهم أصحاب الأموال في المحروسة، الذين تعد تسميتهم "الرأسماليين" ظلمًا للرأسمالية بمعناها المصطلحي والتاريخي ولدورها في بناء مجتمعاتها، ولذلك تراهم وقد ارتضوا اسمًا "للدلع" هو "رجال الأعمال".. هكذا "الأعمال" دون تحديد لنوع العمل، ودون أن يفطنوا أن الوجدان الشعبي يصرف لفظ "الأعمال" إلى ما هو سحر سفلي شرير ومؤذٍ!

لا يتعلمون الدرس الأول الأهم، وهو أن شعرة دقيقة جدًا تفصل بين الدفاع عن المصلحة وتحقيقها وتعظيم الأرباح حتى توصف بالفاحشة، وبين اغتيال الوطن.. لأن التاريخ يشهد- منذ حكم محمد علي وحتى الآن- أن تلك الشريحة قاومت كل مشروع وطني سعى لتطوير البلد ورفاهيته، ودائمًا ما تتقاعس عن الدور الذي يجب أن تقوم به، حتى وإن دعيت إليه من جانب الدولة عبر القيادة صاحبة المشروع.. وهذا ما حدث في عهد محمد علي، إذ اضطر إلى مذبحة القلعة لينفذها بنفسه، واضطر ابنه إبراهيم إلى أن يستأصل أصحاب الملكيات الكبيرة والأموال في الصعيد عندما قاوموا المشروع العلوي لتطوير الملكية الزراعية في مصر!

ثم تكرر الأمر مع المشروع الوطني لثورة يوليو، إذ تمت دعوتهم للمساهمة في خطة التنمية الشاملة، وتم تمهيد الأرض الاقتصادية لهم بالتمصير الذي أوقف- بل قضى على- نفوذ وقوة رأس المال الأجنبي، لينفسح المجال لرأس المال الوطني، وإذا بهم يرفضون بل ويستعدُون الجهات الأجنبية على مصر، ولم يكن ثمة بديل إلا التأميم والمصادرة!

وعندما حدث التغيير باتجاه الانفتاح الاقتصادي في حكم السادات، وفتحت أمامهم كل الأبواب، بل وحدث أن فتح- أمامهم وأمام أبواقهم وخدمهم- الثأر من شخصية يوليو وعبد الناصر؛ لم يحسنوا اغتنام الفرصة لبناء وطن متماسك ومتوازن وقوي وفيه اقتصاد رأسمالي حقيقي صناعي ثقيل وتحويلي وزراعي، يتكامل فيه إنتاج المحاصيل مع التصنيع الزراعي، وفيه بنية أساسية قوية، وفيه تعليم وصحة وخدمات، وفيه اتحادات ونقابات للعمل والعمال على النحو الذي وصلت إليه مجتمعات الرأسمالية الأوروبية والآسيوية، ولكنهم اتجهوا إلى المقاولات والتوكيلات الأجنبية والاقتصاد الريعي الاستهلاكي، ولم يوفروا أي جهد لتفتيت المجتمع وتفشي طبقية مقيتة فيه، فكان لهم معازلهم في أطراف المدن والمدن الجديدة والسواحل الشمالية والشرقية، وامتلك عديد من محدثي النعمة الطائرات واليخوت، ثم- وهو الأنكى والأخطر- عمدوا إلى تفشي وترسيخ الإفساد والفساد، لكي يخترقوا نسيج مؤسسات الدولة، واستغلوا البيروقراطية في هذه المهمة، ليترسخ تحالف رأس المال المنحط مع السلطة، الأمر الذي فتك بالوطن ومازال يفتك، رغم الجهد الجبار المضني الذي تقوم به الأجهزة الرقابية الآن بأوامر مباشرة حازمة صارمة من رئيس الجمهورية.. وكانت محصلة إفساح المجال لهم على عهد السادات أن عاد التأسلم السياسي بأمواله وإجرامه متحالفًا معهم، وأن اغتيل صاحب المشروع "أنور السادات" بأيدي حلفائهم المتأسلمين، وأن تم تفتيت وتفكيك الوطن، ثم أنْ تمكن الإخوان من السيطرة على مفاصل اقتصادية مهمة ومن ثم التغلغل السياسي حتى جلسوا على أريكة الحكم في مصر!

وها نحن إزاء حلقة خطيرة من حلقات جهالتهم وانطماس بصيرتهم، إذ سعى الحكم بعد 30 يونيو إلى مناشدتهم المساهمة في بناء الوطن، وكان نداء المساهمة في حفر القناة الجديدة، وفي إنشاء صندوق بمائة مليار جنيه للإنفاق على المهام الرئيسية اللازمة للخروج من الانهيار الشامل، فإذا بهم يمارسون ما مارسه أسلافهم أيام إبراهيم باشا وأيام جمال عبد الناصر، وجلسوا يتفرجون، وتبرع بعضهم ببعض "الفكة" ذرًا للرماد في العيون، وبدلا منهم تقدم الشعب المصري ووفر الأموال اللازمة، وصاروا يشككون في قدرة الدولة على ردها وسدادها لأصحابها، ولكن رد الله كيدهم في نحورهم وها نحن الآن نرى كيف ترد الفلوس بفوائدها للذين ساهموا!

أمام ذلك كله، وبخبرة الدولة في التعامل معهم- منذ إبراهيم باشا- كان لابد من أن تتجه الدولة لتصبح عصمتها الاقتصادية في يدها هي، لأنهم- فوق ما سبق- لم يفلتوا فرصة لخنق الدولة وشل قدرة صاحب القرار إلا واغتنموها، حدث هذا في مجال التموين والدواء وغيرهما.. فاتجهت الدولة لتدبير موارد السيولة اللازمة لكيلا تقع البلاد على رأس من فيها.

وها هم الآن- ووفق نموذج نجيب ساويرس وحسين صبور- يفتحون النيران على صاحب القرار، ولأنهم لا يتعلمون أبدًا فإنهم بالبصيرة المطموسة والبصر الكليل لم يدركوا أن نيرانهم قد اخترقت جسد الوطن وفتتت كبد المحروسة، ولو أنهم تعلموا وكانت بصيرتهم وبصرهم سليمين لعرفوا أن الإنسان قبل أن يطلق القذيفة تجاه خصمه عليه أن يعرف أين ستمر، فربما ستمر من جسد ابنه أو أبيه أو جدار بيته.

والسؤال هو: هل سننادي بضربهم وتأديبهم وتأميمهم؟! والإجابة لا.. بل أن نسعى لبناء اقتصاد وطني قوي، ولا مانع من رأسمالية حقيقية واعية مدركة لدورها الحضاري والثقافي، لتنهي حقبة "الأعمال" السفلية الشريرة.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 سبتمبر 2019.

No comments:

Post a Comment