Thursday 30 January 2014

حمي الله مصر من المتقلبين


لوحة تاجر الشارع للودفيج دويتش
 لعدة سنوات متتالية كان دير راهبات قلب يسوع بمصر الجديدة يستضيف عددا من المثقفين المهتمين بالعمل العام والمعنيين بوحدة الوجدان الوطني‏، وكانت لجنة العدالة والسلام ترعي نشاطا وطنيا مميزا‏،‏ وكان الراحلان جورج عجايبي وأحمد عبد الله رزة،‏ رحمهما الله رحمة واسعة،‏ في مقدمة الرواد بهذا المجال‏.
وسنة بعد سنة كان العدد يزداد إلي أن أصبح الضيوف بالعشرات، وكان اللقاء يتم دوما علي إفطار رمضاني تطهوه الراهبات بأنفسهن، وتقف رئيسة الرهبانيات الكاثوليكية الأم العظيمة المحترمة ماري جورجيت لتستقبلنا بوجهها الصبوح المضيء وابتسامتها الرائعة وكلماتها عميقة المضمون، وكان الأسقف حنا قلته يحرص علي الحضور كل عام، وذات مرة حضر البطرك الراحل المتنيح اسطفانوس بنفسه..ومن حلقة حوار ضيقة حول فناجين الشاي والقهوة وصواني الكنافة والحلويات، إلي ندوة كبيرة لها منصة وإدارة ومتحدث رئيسي ومعقبون! ومازلت أذكر هذه اللقاءات التي ترسخت في وجداني ولم تنقطع صلتي بالدير عبر مهاتفات كريمة من السير بدور الراهبة الفاضلة.

ومناسبة هذا الطرف اليسير عن تلك الأيام هو أنه حدث ذات ندوة منذ نحو عشر سنوات تقريبا، أن جلسنا كالعادة بعد المحاضرة الرئيسية وبعد الحوار حولها، جلسة ما قبل الانصراف في الفراندة الواسعة المطلة علي حديقة الدير.. واستمر المحاضر في كلامه وفي تلقي الأسئلة إلي أن كنت آخر السائلين، فتنحنحت وقدمت الاعتذار مسبقا عما سأقول، وبدأت بسؤال للمحاضر تساءلت فيه عن أمر بدا أولا أنه شخصي، إذ قلت له: ألم تزهق سيادتكم وتقرف؟!

ورد سيادته: من ماذا بالضبط؟!وقلت: من المرمطة كمثقف معروف وكعالم مرموق في تخصصك، ومضيت أقول لسيادته: تذكر أنك كنت منتميا لتنظيم سياسي إسلامي، ثم التحقت بنظام يوليو وعبد الناصر، ويقال أنك كنت من مؤسسي التنظيم الطليعي، وأنك كنت مهما في أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي، وبعدها اقتربت من نظام أنور السادات وعملت في مجال الشباب والإعلام، وتوليت الوزارة، وتذكر أنك رعيت شباب الحركة الإسلامية في الجامعات المصرية، بعد أن قرر السادات تعظيم فعالياتها لتصفية التيار الناصري والاتجاه الماركسي، وأنك ذهبت بمجموعة من شباب جامعة عين شمس للقاء الرئيس السادات في برج العرب يوم الخميس20 سبتمبر1973، وتذكر أنك قلت أمام شهود أحياء إن في حلقك غصة، لأنك لا تعلم لماذا استوزروك ولماذا أنهوا استوزارك.. وها أنت الآن تعمل مع نظام حسني مبارك، ولذلك فإن سؤالي قد يبدو تقريريا عن أنك لم يصبك الزهق والقرف، لأن هذه النظم تتخذ من طواعيتك نموذجا لـمرمطة المثقفين والحط من شأن العلماء، وأضفت: ولعلمك فإن معظم المصريين قد حفظوا الأسماء والوجوه التي تتكرر نظاما بعد نظام، ولذلك فهم لا يثقون في أي لافتة حكومية تعمل تحتها تلك الأسماء، سواء كانت اللافتة وزارة أو منظمة أو حتي مقالا في جرنال! وللحق فإن الرجل رد من فوره: والله عندك حق، ثم وبدبلوماسية رقيقة ختم الأنبا حنا قلته الجلسة، ليسارع بفضها.

نعم إنها العينة الأزلية الأبدية من محترفي الاقتراب من النظام.. أيا كان هذا النظام.. اشتراكيا أو رأسماليا أو استبداديا أو إفساديا.. مقاوما لإسرائيل أو متصالحا معها.. معاديا لأمريكا والغرب أو خادما في بلاطهما.. المهم هو أن يكون الواحد منهم تحت عين صانعي القرار ومتخذيه..ولا بأس إذا أعيته الحيل في البقاء تحت الضوء، أن يخترع لنفسه مهمة لم يكلفه أحد بها ويمضي بها مدعيا أنه هو نفسه ذلك الرجل الرشيد الذي تبحث عنه الأمم في منعطفاتها التاريخية ومحنها السياسية، رغم أنه يدرك أن مآل مهمته هو الفشل الذريع لا لشيء إلا لأن الأطراف كلها تدرك أنه يصطنع لنفسه دورا ليبقي تحت الضوء وليحمي نفسه ومصالحه وأسرته من أي تقلبات قد تصيبه رياحها ولو بأدني درجة من اهتزاز.

ونعم ثانيا.. إنها العينة التي لا تتردد الآن في الظهور كلاكيت خمسين مرة بعد أن تحركت قرون استشعارها، فأدركت أن المحروسة مقبلة علي تغييرات جذرية تطيح بنظام الإخوان وبالتجارة بالأديان، وهنا أجد أن لا قدرة لأحد ولا لمجتمع ولا لوطن علي التخلص من هذه العينة، وأنها ستبقي ما بقي للإنسان غرائزه ومسلكياته.

إنني أذهب إلي أن الحاكم قد يبدأ محصنا ضد الفساد، فيعلن أن الكفن ليس له جيوب، ومحصنا ضد الانتهازيين فيعلن أنه هو، هو نفسه، ولا طموح له أن يكون الزعيم الفلاني أو الرئيس العلاني، ليقطع الطريق علي من سيوهمونه بأنه أعظم من هذا وذاك.. ولكن مع الزمن ومع الدوي علي الآذان الذي هو أمر من السحر وأشد، ومع الضعف الخلقي الساري في النفس الإنسانية أيا كانت قوة صاحبها ويقظته وفطنته، يبدأ الحاكم في النفور الضمني أولا من الصادقين معه والناصحين له، ثم يتحول إلي النفور العلني الذي يترجمه بتجاهلهم وعدم دعوتهم والاستماع إليهم، كما كان يفعل، وبحسب قانون الأواني المستطرقة فإن العينة إياها تبدأ في ملء الفراغ وتعرف تماما اللحظة المناسبة للتقدم وتدرك تماما ماهية الخطاب الذي يجب أن تستخدمه مع الحاكم، فتبدأ الأقوال مغلفة بالمحسنات البديعية. ومرة بعد مرة يتحول الخطاب إلي التأييد المطلق والثناء المفرط والمبالغة في مدي عظمة حكمة سيادته وتاريخية كلماته، ولا بأس من إقحام العناية الإلهية في الموضوع للتأكيد أنها وحدها التي شاءت وجود فخامته وأيدت استمراره حتي أقرب أجل.. وليس أجلين.. بل ربما لا يجرؤ أعتي نماذج العينة علي تذكير فخامته بأن هناك أجلا وأحيانا أجلين.. الموت.. والثورة عليه!

إن الوطن في أمس الحاجة الآن لمن يضع النقاط علي الحروف أمام الرئيس القادم الذي أظنه بدوره لديه القدرة علي إدراك كل جوانب المشهد، بما فيها وجود تلك العينة.

ليس مطلوبا من أي رئيس قادم أن ينهر ويسب الذين يحرقون له البخور ويطلقون عليه الأوصاف الجليلة، وليس مطلوبا منه أن يسعي لمن يعمدون المعارضة بالتهجم وبالانتقاد لمجرد المعارضة، وإنما المطلوب في ظني أن يتجه الرئيس مباشرة لمهمته، وأن يترك المدح والقدح جانبا، لكي تقوم المؤسسات التي ينبني عليها النظام بدورها، بما في ذلك تقييم سياسات وتطبيقات السلطة التنفيذية، وأيضا رئاسة الجمهورية، وفق ما ينظمه الدستور وتقننه القوانين!

إن أخطر ما سيواجهه الرئيس القادم هو أن تتمكن العينة إياها من قلوظة العمامة له، ثم ستكون تلك العينة بمثابة السوس الذي ينخر في دعائم الحكم، فإذا ما سقط بأحد الأجلين ـ الموت أو الثورة ـ فسيكونون في مقدمة القادحين الذامين، مثلما عايشنا ذلك بأنفسنا بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، ومصرع الرئيس السادات وخلع الرئيس حسني مبارك، وعزل الرئيس مرسي.. وللعلم فإن النموذج الذي قدمته في مطلع هذه السطور، مازال موجودا يمارس مهامه بكفاءة وهمة، ويتهم من يحاول تقييم دوره بأنه مخبر وأن كتاباته بمثابة بلاغ للأمن.
                                     
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 30 يناير 2014

No comments:

Post a Comment