Thursday 16 January 2014

فلتستمر الحملة ضد القبح

 
لوحة بائع البرتقال للودفيج دويتش

أوجه التحية لـ الأهرام علي الحملة الصحفية ضد القبح الذي نشره الإخوان علي الجدران‏،‏ ولوثوا بالهباب الذي يشبه ضمائرهم مقاعد الحدائق وأماكن انتظار حافلات النقل العام، واستخدموا ألفاظا أقل ما يقال عنها أنها معصية للخالق- عز وجل- الذي قال ولقد كرمنا بني آدم، فيما هم يضعون الإنسان مواضع الإهانة ونهش الأعراض، وعلي رأسها العرض الوطني الذي لا يقل قداسة عن العرض الأسري، إن لم يتفوق عليه بمراحل!

وكم وددت أن يستكمل الأهرام حملته لكي لا تقتصر علي إزالة القبح والتلوث الإخواني وإنما تتعدي ذلك إلي مواجهة كل مظاهر القبح العمراني في أرجاء المحروسة، خاصة في الأحياء التاريخية من مدنها الكبيرة والمتوسطة، بل إن بعض قراها- وهي بالمئات- فيها معالم تاريخية معمارية، وفي ظني أن مثل هذه الحملات المعنية بالذوق العام وبالوجدان وبعلاقة الإنسان بالبيئة من حوله أصبحت ضرورية بعد أن تفشت ثقافة القبح- إذا جاز أن يكون للقبح ثقافة- في كل مجال وتجاوز فيها المميزون بالثروة وبالتعليم كل الحدود بأكثر مما فعله الناس العاديون الذين تجدهم يتلمسون البقاء علي قيد الحياة. بل إن الغلابة- سكان الأحواش والأزقة- تجدهم يحاولون تحسين الوضع بزرع شجرة لبلاب أو خروع، أو ملء الأصص بالصبار وكنس الأرض ورشها قبل فرد الحصير للجلوس عليها! أما أولئك المميزون فإنك قد تجد منهم من يسكن مسكنا فادح الثمن وفيه من الأثاث والرياش ما يتجاوز الملايين، بينما بسطة السلم أمام شقته ومن بعدها الدرج تئن من القذارة، وكثيرا ما يمتنع صاحب المسكن عن دفع اشتراكه في الصيانة والنظافة!

إن مقاومة القبح لا تشترط مجرد رفع المستوي الاقتصادي للناس، لأن كثيرين- كما أسلفت- أغنياء ولكنهم فقراء الإحساس منعدمو الذوق، ولكنها مقاومة تبدأ من الأسرة ثم مراحل التعليم، وللإعلام- خاصة المرئي- دور خطير في المسألة، ولن نتمكن من النهوض من كبوة مبارك والإخوان إلا إذا وضعنا تصورا للنهوض الشامل الذي يعد الذوق والوجدان أهم المجالات فيه، والتي إن ترسخ فيها ما نسميه منظومة القيم الجمالية كان وصول هذه المنظومة إلي العين والأذن والذهن علي مستوي الفرد، وإلي كل شرائح المجتمع علي مستوي الوطن وصولا سهلا وباقيا ومتطورا ما بقيت الحياة قائمة! لقد تعجبنا وضجرنا وقرفنا مما فعله ويفعله الإخوان من تلوث قبيح علي النحو الذي ذكرته، ولكني أظن أن هناك ما هو أفدح من الكتابة السوداء شكلا ومضمونا.

وأقصد به ما قام به الجناح الطلابي للإخوان في الجامعات المصرية، إذ لم يكتفوا بالكتابة البذيئة بل تعدوها إلي سلسلة من التصرفات تكشف عن حجم ومساحة وعمق القبح في تلافيف تكوينهم الذهني والنفسي والاجتماعي، لأنهم اعتدوا أولا وبقسوة علي زملائهم وأساتذتهم، بل وصل التدني إلي تجمهر طالبات محجبات ومنتقبات أمام مقر إقامة عميدة كليتهن ورشقنها وأسرتها بأحط وأبذأ الألفاظ، ثم تجاوزن ذلك إلي حرق الأشجار الخضراء وإتلاف أعمدة الإضاءة، وتجاوزن إلي الأهالي المقيمين في الشوارع القريبة ليحطمن سياراتهم ويكتبن البذاءة علي مداخل العمارات! وهذا هو صميم القبح! إذ إن لكم أن تتخيلوا كيف يقدم إنسان- أي إنسان- علي إشعال النار في شجرة خضراء جميلة، فما بالك وهذا الإنسان يدعي أنه يمثل الدين! نحن إذن أمام مهمة حضارية- ثقافية- وجدانية- اجتماعية بالغة الأهمية تفرض علينا أن يجلس أهل العلم والخبرة منا ليخططوا لكيفية القضاء علي القبح، ثقافة وأسلوبا ومسلكا، وإحلال التذوق الجمالي مكانه.

لقد عشنا في قرانا القديمة مع فنانين فطريين، تراهم وهم يرسمون الأشكال البدائية علي مداخل الدور، بعد أن يكون البناءون قد أتموا عملهم وضمنوه أشكالا جمالية بسيطة عن طريق رص المداميك بأشكال معينة، وعشنا مع صانعي الخوص المجدول لتخرج من أياديهم المقاطف والقفف وما اشتق منها، وعشنا كذلك مع الذين كان عملهم الحلاقة للحيوانات!، وكان لهؤلاء الحلاقين ذوقهم في تزيين ذيل الجمل وكفله- أي المساحة الممتدة من نهاية السنام الخلفي حتي أعلي الفخذين- وتري مثلثات ودوائر ونجوما وغيرها، وكذلك كان الحال للحمير ودواب أخري! بعد ذلك وفي قرانا نفسها كانت الشجرة مقدسة سواء تلك الموجودة أمام الدار أو الأخري القائمة علي رأس الغيط.

لقد عشنا صلحا مع بيئتنا ومازال الواحد منا- أي ممن عاشوا في طفولتهم وصباهم هذا الجو- يحن حنينا شديدا لرؤية صفصافة تعانق وجه جدول المياه بأغصانها، ولتذوق طعم ثمرة جميز مختونة أو مجروحة بالسكين حيث كانت رائحتها وحلاوتها لا يوصفان.. من باب الاستطراد غير المستهجن كنا في قرانا نلاحظ حكاية تغطية الثمار غير الناضجة بعد جنيها ووضعها في المشنة المصنوعة من أعواد الرمان الجافة بأعواد نبات الرعراع التي تنمو طبيعيا شيطانيا علي حواف الترع، فإذا بالثمار تنضج نضجا شديد الجودة في الشكل والمذاق، وعرفنا من بعد أن للرعراع زيتا عطريا يبثه علي تلك الثمار فيحول السكر فيها من فركتوز إلي جلوكوز أو العكس، لا أتذكر، لم يكن للقبح سبيل إلي تكويننا إلا بعد أن ظهرت وتفشت الكائنات التي تحرم الغناء والرسم والتصوير والنحت، وتجرم التعبير عن الإحساس أيا كان هذا التعبير، ورأيناهم بأجساد مكتنزة من شدة الشراهة وكروشهم تتدلي ولحاهم شعثاء مستنفرة ويتقدمون ضحاياهم من أزواجهم وأولادهم بعدة خطوات.

القبح لا يتجزأ، فمن أجاز لنفسه أن يخرج خلسة في جنح الليل ليلطخ كل الأسطح بالسواد البذيء هو لص معتد علي ممتلكات الناس وأعراضهم، وإلا لما انتظر نزول الظلام، ومن أباح لنفسه حرق الشجرة الخضراء هو مختل التكوين لا يري بأسا في التعدي علي أساتذته.. وهلم جرا.. إن حملة الأهرام ضد القبح يجب أن تستمر وأن تأخذ أبعادا أوسع وأعمق فلعل وعسي أن نعيد للمحروسة وجهها النبيل والجميل.
                                    
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 16 يناير 2014

No comments:

Post a Comment