Thursday 2 January 2014

زراعة الحصرم

 
لوحة الناسخ للودفيج دويتش


هي فاتورة فادحة كتبنا على أنفسنا أن نتحملها‏،‏ وأن نسددها مهما تكن فداحتها‏،‏ والمحظور الوحيد الذي يستحيل القبول به‏،‏ هو أن نركع ونتقدم بأكفان وطننا على أيدينا إلى الإخوان وبقية الإرهابيين، لكي يقبلوا الصفح عن شعب مصر، ويكفوا عن الاستمرار في القتل والتدمير ومصادرة الحياة، وأن يضعوا الشروط التي يرونها بما فيها إطلاق أيديهم ليفعلوا ما يشاءون وقتما وكيفما يريدون.

هي الفاتورة التي تركنا بنودها تتوالى وتتراكم منذ تخلينا عن مسئولياتنا الوطنية على كل الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأهملنا الأجيال الطالعة لتقع فريسة وضحية للذين ركزوا كل جهدهم وإمكاناتهم لاستقطابها باسم الدين. ولكي يتضح الأمر أكثر وبغير تبسيط مخل فإن المشهد يماثل أسرة تركت أبناءها وأهملتهم، لتلتقطهم عصابات الاتجار بالبشر وعصابات الإدمان والمخدرات والتسول والسرقة، وتسيطر عليهم عقليا ونفسيا وماديا وغريزيا وتقنعهم بأنها هي الصدر الحاني والظهر الصلب اللذان قدما الرعاية والحماية والتوجيه السليم، وأننا بالتالي جناة مجرمون لا ينبغي أن نؤتمن على هؤلاء الأبناء، ولا على مصير حياتهم وحياة المجتمع.

إن كل من كان له دور في تسطير بنود الفاتورة عليه أن يسهم في سدادها، ابتداء من الرؤساء والوزراء وأساتذة الجامعات ومدرسي التعليم العام، والصحفيين والإعلاميين، والمسئولين عن الدعوة الدينية في المساجد والكنائس، والمسئولين في الأندية الرياضية والجمعيات الاجتماعية، وأيضا الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وليس انتهاء بالآباء والأمهات. لقد أخذنا الأمور باستخفاف تارة، وانتهازية تارة أخري، وسلبية تارة ثالثة، ويأس أخري رابعة، والإهمال خامسة، ولم يفلت مجال من المجالات من شيوع الاستخفاف والانتهازية والسلبية واليأس والإهمال متفرقة أو مجتمعة مع بعضها، حتى تهالك وضع الوطن، وأصبح كالقربة المخرومة من كل جوانبها لا تحتفظ بأي محتوى داخلها.

نعم كان الاستبداد والفساد والاختراق، وأيضا الخيانة، أمورا ارتكبها مسئولون في قمة الحكم من ذروتها في القصر الرئاسي وتدرجاتها، نزولا إلى مستويات تعد بمعايير التراتب الوظيفي مرموقة، ونعم كانت هناك حالات من الاعتراض والمقاومة النسبية تعرض من قاموا بها إلى التنكيل والضرب والإقصاء والتشهير، ولكن السمة الغالبة كانت التفريط في حقوقنا، ومن ثم التملص والهروب عن واجباتنا.

نحن أمام حالة نفس اجتماعية في جانب منها أبناء جانحون يشعلون النيران في كل ما ومن يصادفهم، وما لم يستطيعوا إحراقه اعتدوا عليه بالتكسير..تكسير عظام أساتذتهم أو تكسير مقاعد ومعامل دراستهم.. وعندما انتهوا من حرق وتدمير وتكسير ما سبق اتجهوا إلى ممتلكات الغير خارج أسوار الجامعة، ثم اتجهوا إلى الأشجار فأحرقوها خضراء حية!.. وفي الجانب الآخر من الحالة هناك كتل جماهيرية موزعة في أماكنها الطبيعية من منازل ومقار عمل وحقول ومصانع وشوارع ومقاه، وليس لدى هذه الكتل أي دليل إرشادي مانيوال تتبعه لكي تتمكن من دفع نصيبها في الفاتورة التي نتحدث عنها، وحتي هذه اللحظة التي تكتب فيها هذه السطور من صباح الاثنين 30 ديسمبر فإن الناس الذين أنجزوا الثورة بموجتيها، وعرفوا وحدهم أن برنامجهم الوحيد وهدفهم الواضح هو إسقاط النظام القائم، لا يعرفون أي برامج، ولا أهداف محددة يسعون لتحقيقها بالحماس والزخم نفسه، الذي مارسوه في مرحلتي الثورة، والمفارقة المؤلمة في هذه الحال هي أن التصدي لمواجهة الفوضي والزبالة وطفح المجاري، وفساد الإدارة، يبدو أصعب من التصدي لإسقاط رئيس الدولة والعصف بحكومته ومعاونيه!

وعلي جانبي الحالة النفس اجتماعية تجلس على القمة مجموعات ممن درجنا على تسميتها النخبة، نجدها في جانب الأبناء الجانحين في الجامعات مكونة في معظمها من أساتذة جامعيين من تخصصات مختلفة، قد يغلب عليها التخصصات العملية من طب وهندسة وبيطري وزراعة وعلوم، ونجدها في جانب الكتل الجماهيرية تضم طيفا عريضا من تخصصات ومهن مختلفة تتراوح بين أساتذة كبار مرموقين في الجامعات، وبين شباب من محترفي التهييج والتحريض السياسي، ولا يجدون حرجا في أن يكونوا بلا عمل محدد يكسبون منه قوتهم. وهذه النخب على الجانبين مسئولة مسئولية مباشرة عن دفع الأبناء إلى مزيد من الجنوح والعنف والعدمية، وعن افتقاد الكتل الجماهيرية لبرنامج عمل تواجه به المشاكل اليومية المتفاقمة. غير أن الأخطر والأشد وطأة هو غياب أي قدرة على ردم الفجوات بين النخب وبين القواعد ـ إذا جاز الوصف ـ وأيضا غياب الرغبة والقدرة معا على اصطفاف هذه النخب وفق برنامج عمل تنسيقي أو جبهوي أو مرحلي، سمه كما شئت، رغم وضوح شدة التحديات.

لقد صمت الآباء والأمهات على ما كان ينقله الأبناء في مرحلة التعليم الابتدائي من مشاهد تحدث لهم كل يوم، عندما لا يقومون بتحية العلم، ولا إنشاد النشيد الوطني في طابور الصباح، وعندما كانوا يقولون الله أكبر إذا تم النداء صفا، ويقولون ولله الحمد إذا تم النداء انتباه، وصمتت النخب على هذا الذي كان يحدث وعلى ما هو أفدح منه، مما كان يدور في المساجد والزوايا التي أنشئت في الأدوار السفلي من بنايات خالفت كل قواعد البناء وكل قوانين التنظيم، واتخذت المساجد والزوايا دروعا إيمانية، لحمايتها من تنفيذ قرارات الإزالة وتحرير المخالفات، ومازلت أذكر عندما اصطحبني أحدهم ممن اشتهر اسمه في البناء المخالف للعقارات لأصلي معه الجمعة في المسجد، الذي أقامه تحت عمارته المخالفة، وما أن دخلنا حتي انتفض مقيم الشعائر والمقرئ، الذي ناداه مالك المسجد والعمارة: يا واد يا شيخ فلان.. معانا فلان باشا النهارده وعاوزك تقرا شوية مريم على شوية رحمن على شوية كهف..، ثم نادي مقيم الشعائر: يا واد يا شيخ فلان.. علشان وقت الباشا ما تطولش الخطبة.. اقلب وخلص!! وكان هو نفسه الذي كلما صادفني خارجا من باب البناية، وهو داخل إلى مطعم الكباب والكفتة الذي يملكه وينغص علينا كل شيء يناديني: اتفضل القهوة.. والنبي عاوز منك شوية ثآفة يقصد ثقافة!!.. وكان هو الشخص نفسه الذي كان يتعمد أن يذكر الحاجة صاحبة الحول والطول في عالم العقارات أمامي وأمام آخرين: فاكرة يا حاجة الواد رئيس النيابات اللي كان عاوز الشقة الفلانية وكان حيبوس إيدينا!

ذكرت هذا الاستطراد لأقدم شاهدا حيا عشته على ما ارتكبناه من جرائم صمت وعلى تعاظم وانتشار الفساد، وهيمنة رأس المال الطفيلي الفاسد، وخضوع السلطة له، ممثلة في أصحاب وظائف مرموقة يحتاجون للسكن وللسيارة وللسهرة وللعزومة على ما لذ وطاب مما فحش ثمنه ولا تكفيه رواتبهم!

لقد كان ذلك جزءا من التربة التي نبت فيها ذلك الجيل، الذي يحرق ويدمر الآن..تربية إخوانية من ناحية.. ومجتمع يسيطر الاستبداد والفساد على مقدراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لقد زرعنا الحصرم لنعاني التضريس.
                                   
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 2 يناير 2014

No comments:

Post a Comment