Tuesday 29 December 2015

تأصيل علمي لظاهرة القبح!




أبرز ما جاءني من تعقيبات وتعليقات على مقال الأسبوع الفائت، حول ظاهرة تفشي القبح والسفالة في بعض الفضائيات، هو ما كتبه السيد أحمد لطفي، كبير معلمي فيزياء الطيران، والمستشار السابق للشركة البريطانية للطائرات العسكرية.

وقبل أن أفسح المجال لسطوره وكلماته، أود الإشارة بالإشادة مني لما أتعلمه منه، لأنني أجد نفسي متلقيا لمعلومات جادة جديدة ولأسلوب كانوا يعلموننا في زمن التلمذة أنه "العلمي المتأدب".. ولعلي هنا أؤكد أن كل ما أتلقاه من تعقيبات وتعليقات- سواء اختلف معي أو اتفق، وأحيانا يصل الخلاف إلى حد جذري- هو ظاهرة صحية أعتز بها، اعتزازي بالكتابة بـ"المصري اليوم" التي مازال لها– من وجهة نظري– دور مهم في تكوين الرأي العام واستنارته عبر "الديالوج" بين كتابها ومحرريها وبين قارئيها.

إنني لا أريد أن "أحرق" ما كتبه السيد أحمد لطفي، ولا أريد أيضا أن أفسده دون أن أدري إذا حاولت تلخيصه أو كتابة مقدمة له.. فإلى سطوره:

مساء الخير..
بداية كل عام وأنتم بخير، فها هو مولد رسولنا الكريم في ذكراه يعانق مولد أخيه عيسى عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، ثم ها هي سنة تلملم أوراقها وتستأذن في الرحيل مخلية العمر والزمن لسنة جديدة، نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون أفضل من سابقتها وأكثر تلطفا بنا وتحننا علينا.

وعلى مقالك حول "قبح هنا.. وضلال هناك" وما أثرته في المسألة الأولى، عندي تعقيب وإضافة، فظاهرة القبح والسفالة التي باتت تسود بعض الفضائيات وتجري على ألسنة مذيعيها جريان الماء في الحلوق، والتي أكدت فيها على بديهية أن التعميم في الأحكام واتخاذ المواقف خطأ يصل أحيانا إلى حد الخطيئة! كما قلت نصا في المقال، وهو صحيح تماما.

واقع الحال يا سيدي يحتم علينا أن ننظر للمشهد من زاوية أكثر اتساعا وشمولا، فالإعلام، وأنت خير العالمين العارفين بأموره وما يجرى في أروقته، ما هو إلا مرآة للمجتمع وما يدور فيه ويحدث في جنباته، فالقائمون عليه والعاملون فيه ومن يدعمونه بالتمويل- سواء من أصحاب الفضائيات أو وكالات الإعلان- كل هؤلاء من المجتمع ويعيشون فيه، ويعملون بالحاكم من قوانينه، والسائد من أعرافه. إذن لا غرابة فيما تقرأ وتسمع وتشاهد من بذاءات وسفالات وخروج عن المألوف أخلاقيا والغالب قيميا.

طيب، سأبتعد أنا قليلا عن هذا المستنقع الشائك، وأحدثك عن "ظاهرة البذاءة"، التي غزت ومازالت تسود المجتمع المصري بشكل وبائي، وأرجعها لأصلها وخلفيتها التاريخية وأصولها العلمية الطبية، وهي ما تعرف بـ"متلازمة توريت –Tourette syndrome".

تظهر أعراض هذا المرض في صورة اضطراب مزمن في الحركة، تميزه لوازم (جمع لازمة) حركية أو صوتية تصدر من المريض نفسه، هنا يفقد المريض كل القدرة على التحكم في ما يخرجه من حركات وألفاظ هي في كثير من الأحيان ألفاظ نابية وبذيئة.

ومما لا شك فيه أن للبذاءة أشكالا وأنماطا، بذاءة القول مثلا هي أحد هذه الأنماط ولكن ليست وحدها، فهناك أيضا سلوكيات أقل ما توصف به أنها بذيئة، بداية بمقاطعة الكلام وليس انتهاء بمهاجمة المتحدث والتهكم على الحديث والسخرية من المتحدث، ناهيك عن التعليقات التي تقرؤها على آراء الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي والتي صارت في كثير منها، مجالا لتبادل البذاءات اللفظية والسباب. يشعرك هذا بأن لهؤلاء الأنطاع الأبذياء "جينات" مختلفة، تحمل من "كروموسومات البذاءة" بأكثر مما تحمل من صفات الوراثة.

دعني أحكي لك قليلا عن هذه المتلازمة المرضية المعروفة بمرض "توريت- Tourette syndrome". ففي العام 1884 وصف الطبيب الفرنسي "جيل دولا توريت– Gilles de la Tourette " تسعة من المرضى يعانون مرضا وراثيا غريبا، تمثلت أعراضه في متلازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذيء جدا، الدكتور "توريت" وصف هذا المرض الذي كانت الماركيزة العجوز الوقور "دي دامبريير – Marquis de Dampierre "، تعاني منه، وتأتي بحركات غريبة بعضها قبيح جدا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ أن كانت في السابعة.

الحقيقة أن ثمة شواهد تاريخية سابقة لاكتشاف هذا المرض، فقد لوحظ أن رجلا من النبلاء الفرنسيين– لا تسعفني الذاكرة المهترئة باسمه الآن مع الأسف– كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كي لا يأتي بحركات بذيئة بإصبعه في حضرة الملك لويس الرابع عشر– Louis XIV (1638 – 1715)، أي أنه كان مصابا بالمرض نفسه قبل أن يعرف الطب اسمه.

أما عن السباب والكلام البذيء في كل مناسبة ودون ما داعٍ، فهو عَرضٌ لمرض يعرف باسم "كوبرولاليا – Coprolalia "، وفيه تخرج البذاءات من المريض تلقائيا حتى لو لم يثر أعصابه أحد!

نفس الأمر ينطبق على ما يصدر من المريض من حركات قذرة باليد أو يلمس العضو التناسلي باستمرار، وهو ما يعرف باسم "كوبروبراكس – Copropraxia"، ولعلك لم تنس ما فعله مرسي في مقابلته مع رئيسة الاتحاد الأوروبي!

ثم هناك النوع الثالث، وهو ما يعرف باسم "كوبروجرافيا – Coprographia"، وهو الولع بكتابة البذاءات، خصوصا على الجدران (لاحظ الكتابات البذيئة على جدران دورات المياه العمومية لتتأكد أن المرض منتشر وله تاريخ طويل عندنا!). ثم هناك كذلك الولع بعرض الجسد العاري أمام الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم، وهو ما كان عرفا سائدا في وقت كانت فيه نسوان الحارات الشعبية تراه وسيلة فعالة للتجريس والتقريع والفضيحة.

إن جيلا بكامله يأكل يوميا من "مائدة البذاءة"! أكثر من نصف المصريين يعزفون يوميا "سيمفونية البذاءة" ببراعة لا يحسدون عليها! خذ مثلا سائقي التاكسيات، إنهم بذيئون للغاية ولا يتورعون عن مخانقة الزبون الراكب من أجل قروش زهيدة، الباعة الجائلون بمكبرات الصوت المزعجة هم أيضا بذيئون، فهو يزعجك أو يقلقك من نومك ولا مانع من أن يتطاول بالقول أو الفعل إن استلزم الأمر إن أنت حاولت أن توبخه بينما مبتغاه أن "يأكل عيشا" منك ومن جيرانك، فتأمل! أرباب الحرف والصنايعية بذيئون جدا، المشاة في الشوارع بذيئون. راكبو "الموتوسيكلات الصيني" بموسيقاهم المزعجة بذيئون، حتى الكثير من أئمة المساجد صارت خطبهم تحمل قدرا كبيرا من البذاءة. الأمثلة أكثر من أن تحصى، فأنت حيثما وليت وجهك، ستجد الأبذياء هم العنوان المتصدر للمشهد في المجتمع.

البذاءة أضحت مرادفا للحالة الثورية، والفوضى ترجمة للحرية، والعنف اللفظي والفعلي هو اللغة المعروفة للحوار اليومي والترجمة المعتمدة للحالة المصرية.

في عصور ما قبل الحضارة، كان البقاء للأقوى، تطورت الأمور ودخلت البشرية في عصور سادها التقدم والتحضر، فصار البقاء للأصلح، أما في مصر فقد صار البقاء– بكل أسف– للأعنف والأكثر سفالة وأشد بذاءة!

عندي اقتناع يرقى لليقين أن الشعوب تُربى كما الأبناء تماما. ثم إن لدي تصوراً بأن حالتنا في مصر أشبه برب أسرة ذهب ليعمل وانشغل عن تربية أبنائه بجلب المال لبحبوحة حاضرهم وضمانة مستقبلهم، ولما رجع بعد سنين، فوجئ بأن أولاده وضعاء وسفلة مع الأسف. يبدو أن متلازمة "توريت" هذه باتت تلازمنا! أطلت عليك فمعذرة. تقبل تحياتي وكل عام وأنتم بخير.


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 ديسمبر 2015

No comments:

Post a Comment