Thursday 31 December 2015

تحية للأهرام في عيده


 
شعار جريدة الأهرام

يكتبون أو يتكلمون مستخدمين صيغة المؤنث أو المذكر، ولا يتوقف أحد عند الفرق بينهما، طالما الكتابة عن الأهرام الصحيفة أو المؤسسة، وأيضًا الجورنال والصرح والتاريخ والدور، وعند مرور ما يقرب من قرن ونصف القرن على كائن ما ويبقى حيا فاعلا مؤثرا لا ينتقص من فاعليته وتأثيره حركة خطه البياني بين قمم صاعدة وقيعان هابطة، فإننا نجد أنفسنا ملتزمين بالتأمل والرصد والتحليل.

لنا أن نتأمل ونرصد الارتباط العضوي الوثيق بين "الفرد" على رأس الأهرام إدارة وتحريرا وبين حركة ذلك الخط البياني، وهذا ليس قدحا في حق شخص بعينه، ولا تقييما لقدراته الفكرية والمهنية، وإنما مفتاح لتحليل مضامين حقب التاريخ السياسي والفكري والثقافي، وأيضا الاجتماعي المصري، وقد نجد ما يجوز أن نطلق عليه "الفرد التاريخي" أو "الكاريزما" بمعنى أو آخر، أو نجد ما يجب أن نعفيه من سياق التحليل، لأن الحالة في المبتدأ والمنتهى تستحق اعتماد قاعدة "إن الله حليم ستار"، والأخرى "لكل مجتهد نصيب إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران".. يعني مأجور.. مأجور.. بالثواب وليس بمعنى آخر!!

عن نفسي فتحت عيني على أبي يعود من عمله مدرسا ووكيلا وناظرا وكلتا يديه مشغولتان، ويتغير ما بإحدى يديه بين يوم وآخر، أما اليد الأخرى فما تمسكه لا يتغير عبر عشرات السنين.. إذ كان يمسك الأهرام مطويا، وقد يصيب أصابعه آثار الأحبار، التي تزول بالوضوء لصلاة الفرض! وكثيرا ما كان يغفو والجريدة على صدره وبين أطراف أصابعه ويا ويله من يحاول أن يسحبها بهدوء ليقرأها أو ليرتاح الوالد في غفوته!.. ثم تكون الواقعة حالكة إذا تصادف وسأل عن أهرام يوم سابق، ويتبين أنه تم التصرف فيه بالطريقة الشعبية التقليدية مفروشا فوق الطبلية أو معجونا لمسح الزجاج!! لا مؤاخذة! وعبر العقود ارتبط الوجدان المصري، وخاصة الفئات الاجتماعية المعنية برصد ومعرفة ما يجري في "البلد"، والراغبة في جرعة معرفية ثقافية غير معقدة ولا مقعرة ـــــ ارتبط ـــــ بالأهرام وخاصة في مراحل صعود الخط البياني وثباته في القمة دهرا إلى أن أصابه ما يصيب كل الظواهر الإنسانية الاجتماعية من علامات الاضمحلال والضعف.. وأزعم أنه ظل في الحالين بلغة أهلنا "عتقى"، حيث يكون "الدهن في العتاقي"، وبقي غيره يتحرك في المسافة بين "الأكلات السريعة"، حيث تغطي النكهات الحريفة ومحسنات الطعم على رداءة الصنف، وبين الصنف الجيد لكنه مسلوق!!.. وآسف للتشبيهات.

ثم إن الأهرام في مرة من مرات قمم خطه البياني، رغم أنها قمم تختلف في مضمونها وأهميتها، وصل إلى وضع كان البعض ومازال وأظنه سيستمر يرجعه إلى علاقة خاصة فكرية وإنسانية وسياسية بين الفرد التاريخي الذي يرأس إدارته وتحريره، وبين "الكاريزما"، الذي كان يرأس البلد وترتبط به شعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأعني بالوضع ما كان عليه الأهرام المؤسسة. إذ حدث تحول نوعي في الإصدار اليومي بعدما رأت مصر نفسها بتنوعها على صفحاته.. وهو تنوع مختلف المجالات.. فالقارئ المعني بالخبر والقصة الإخبارية والتقرير والتحليل والتحقيق والحوار يجد بغيته.. وذو الميول الإسلامية والآخر ذو النزوع العلماني وغيرهما التقدمي الاشتراكي يجد ما يقرأه رصينا بأقلام رفيعة القدر سامقة الهامة.. وهكذا الحال فيمن يهتم فقط بالرياضة، ومن لا يريد وجعا لدماغه يجد بغيته في مادة صحفية، كثيرا ما احتلت الصفحة الأخيرة.. وحتى غاوي الأحزان فلديه صفحة الوفيات.. أشهر صفحة كان يقال دوما إنها أكثر صدقا من غيرها إلى أن دخل النزوع البشري نحو التميز فصرنا نقرأ فيها من يذكر بالنعي الأجداد الراحلين ليعلن كم باشا وكم بك وكم رتبة عسكرية وكم وزير، كانوا في السلسال، بل إن البعض لا يتورع عن الإعلان عن الحسب والنسب الشريف لآل البيت والنبي عليه السلام!

ومع الإصدار اليومي آنذاك طالع المصريون إصدارات أستطيع أن أصفها بالجبارة كالسياسة الدولية والطليعة، اللتين لم يطاوعني كياني في أية مرة أردت أن أتخلص فيها من أعدادهما المرصوصة أعلى "دواليب" المكتبة بل يحدث عشرات المرات أن تمتد الأيادي إلى "الطليعة" خصيصا لقراءة ما فيها، حيث تجليات العقول التقدمية وفي مقدمتها أبوسيف يوسف!

وعندما احتدم الصراع ضد العدو الصهيوني كان الأهرام حاضرا في قلب الصراع.. وأقصد بالقلب ليس ميدان القتال على الجبهة وإنما صميم الجانب الحضاري والثقافي والفكري والمعلوماتي، ووجدنا مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية قد تأسس واختير له مجموعة من أكفأ شباب مصر، الذين لا يظهرون في الاحتفالات ولا يتاجرون أو يزايدون بما أدوه.. وأذكر منهم أو في مقدمتهم حاتم صادق وسميح صادق – ليسا قريبين – وجميل مطر وعبد الوهاب المسيري وأحمد عفيفي وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم، ومع هؤلاء تم استدعاء كفاءات شابة في العديد من المجالات، وخاصة تلك التي تتصل بالصراع العربي ــــ الصهيوني، وهنا جسد المركز ردما للفجوة بين الصحافة السيارة وبين الجهد الأكاديمي، وبين صانع القرار ومتخذه وبين التحليل العلمي المعتمد على قاعدة معلومات متجددة كل يوم بل كل لحظة.. ولم يعد سرا أن المركز كان يسبق أجهزة الدولة المعنية في تقديم التقارير العلمية والمعلوماتية للرئيس جمال عبد الناصر، وكان ذلك ضمن خطة إعادة بناء القدرة المصرية والانتقال بمفهوم القدرة من امتلاك الأسلحة وإعداد الجيوش فقط، إلى المجال الأوسع للمفهوم الذي يشمل جوانب عديدة على رأسها المعلومات والتحليل العلمي والتماسك الاجتماعي والثقافي!

هكذا كان الأهرام في إحدى ذرا خطه البياني يضم شيوخ الفكر والثقافة كالحكيم ومحفوظ ومؤنس وعائشة عبد الرحمن ولويس عوض وفوزي وطاهر، ويفسح المجال للشباب في الإصدار اليومي وفي مركز الدراسات الذي اتسع عمله بعد ذلك، وكان الانتساب إليه نيشانا يتباهى به صاحبه!

وهكذا كان الأهرام شبيها بالوطن الذي يصدر لأبنائه، مع حرص على أن الالتزام مختلف عن الإلزام، وأن التعبير عن التنوع الفكري والثقافي والسياسي في الوطن لا يتصادم مع الإصرار على أن يكون الأهرام قاطرة تشد التكوين كله إلى الأمام بالتنوير والحداثة.. وكان كما وصفه الفرد التاريخي محمد حسنين هيكل "إطلالة مصر على القرن الحادي والعشرين".. ترى ماذا تبقى في الأهرام، وكلنا نلاحظ الجهد الجهيد الذي تبذله إدارة تحريره في اللحظة الراهنة، تحية للأهرام في عيده الأربعين بعد المائة، وتحية لكل جهد ساهم في أن يبقى الأهرام معينا لا ينضب.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 31 ديسمبر 2015

No comments:

Post a Comment