Wednesday 14 March 2018

طُرف من سيرة المثقف والأمن





لفترة لا أتذكر مداها الزمني كان اسمي على قوائم ترقب السفر وترقب الوصول في المطار، ودائمًا ما كنت أعمل حسابي فأذهب مبكرًا جدًا عن الموعد الذي تحدده شركة الطيران، فربما يحدث ما حدث مرتين أو ثلاثًا عندما يتم سحب الجواز ومعه بطاقة الصعود والاحتجاز في غرفة خالية إلا من كرسي، وبعدها شحني في صندوق "بوكس" مكشوف في عز البرد، ومنه ذات مرة إلى الحجز في بدروم أمن الدولة بلاظوغلي، إلى أن يظهر للبضاعة أصحاب! وعند الوصول من الخارج أكون جاهزًا نفسيًا وبدنيًا للوقوف طويلًا نسبيًا أمام شباك الجوازات، ثم الانتظار طويلًا حتى يذهب الجواز إلى المعنيين في أمن الدولة– آنذاك– والأمن القومي، ويعود، وربما كان المسؤول الذي لا أراه مشغولًا بأمر ما فتلقى الجوازات على مكتبه إلى أن ينتهي براحته.. وقبل ذلك بسنين عندما لم يكن الكشف على الجوازات إلكترونيًا كنا نخرج، وبعد أن يكتشفوا أننا مطلوبون يبدؤون في المناداة على الأسماء ونحن أمام "السير" الذي يدور بالحقائب، وأقول نحن بضمير الجمع، لأنه تصادف ذات مرة أن وصلت في وقت واحد مع وصول من هو أهم مني بحكم عوامل كثيرة، وهو الأستاذ لطفي الخولي رحمه الله، وكان اسمه الكامل أحمد لطفي الخولي، وخرجنا سويًا ننتظر الحقائب، وكان رجل الأمن الذي وظيفته ملاحقة المطلوب قبل خروجه من المطار ينادي بأعلى صوته: أحمد لطفي الخولي وأحمد عبد الرحمن الجمال، ومن كثرة النداء كان يخلط الاسمين أحيانًا فينادي أحمد عبد الرحمن الخولي وأحمد لطفي الجمال، والأستاذ لطفي رحمة الله عليه واقف وأنا بجواره وفي فمه السيجار غير المشتعل ويقول لي: "ما تردش"! وفعلًا لم نرد وخرجنا إلى أن نتلقى في هواتفنا المنزلية الاتصال المهذب من الضابط الذي يتابع الحالات: "حمدا لله على السلامة من السفر، أنت كنت جاي منين، طيب لو ممكن تعدي تاخد فنجان قهوة"!

وبدون ذكر أسماء كان حضرة الضابط -الذي يتابعني لمدى طويل، استمر منذ كان رائدًا إلى أن أصبح عميدًا- رجلًا مهذبًا وابن ناس، وكنت في المرحلة التي كان هو فيها رائدًا ألبي الدعوة فورًا، إذ كنت ما أزال ملسوعًا بالشوربة وأنفخ في الزبادي، ومع الأيام، ومع ابتعادي عن النشاط السياسي المباشر، ومتغيرات أخرى كنت أجادل في تلبية الدعوة وأؤجلها بطريقة مهذبة أحيانًا ومحتجة أحيانًا أخرى، إذ أطلب إذنًا بالقبض عليّ حتى أذهب للقهوة!

وبسبب قوائم الترقب عادة ما تتشابه الأسماء، ولذلك قصة طريفة معي، إذ فوجئت قبيل منتصف الثمانينيات، وكنت ما زلت أعمل بدار الخليج للصحافة بالإمارات، بكثيرين يتصلون بي مادحين لمنتجات المخللات والجبن القديم "المش"، التي تنتجها مزرعتي في مصر وتسوَّق في محلات البقالة والسوبر ماركت بالإمارات، ونزلت إلى السوبر ماركت وبحثت فوجدت علبًا بلاستيكية وبطرمانات زجاجية فيها تلك المنتجات وعليها "مزارع أحمد الجمال".. ومع الاتصالات بدأت التهكمات، وحاول بعض أصحاب الثأر السياسي أن يتخذوها مدخلًا لاغتيال الشخصية، ولما تقصيت بقوة اكتشفت أن صاحب الاسم المماثل موظف مصري يعمل في الإمارات، وكان أن اتصلت به وحكى لي مأساته وملهاته، وكانت مأساته هي تعرضه للاحتجاز والبهدلة في المطار بسبب تشابه اسمه مع اسم واحد مطلوب، الذي هو العبد لله، أما ملهاته فقد قرر أن يستفيد مثلما تضرر فكان أن استفاد من تشابه الاسم ليضعه على المنتجات إياها، على أمل أن تزداد القوة الشرائية ممن يتابعون ما أكتبه ويقبلونه فيندفعون بالتالي لتشجيع المشروع والاتصال لإعطاء التمام.. وكان أن كتبت في زاويتي اليومية آنذاك بصحيفة الخليج أنني فلان الصحفي وليس البقال، ونوهت إلى أن البقالة وتجارة المخللات والمش أكثر ربحًا من الكتابة ووجع القلب!

ومن مفارقات حكاية القوائم إياها أن الأستاذ لطفي كان متعجبًا جدًا من استمرار حكاية ترقب الوصول، رغم أنه كان قد غير اتجاه الدفة تمامًا، إذ ظل اسمه ينادى في صالة الخروج حتى بعد أن صار هو رأس الرمح المتقدم في عملية التطبيع، وصار من المحسوبين ليس فقط على النظام الحاكم في مصر آنذاك، ولكن أيضًا من أصدقاء أصدقاء النظام في الدولة الصهيونية، وفي الغرب، وكان بقدراته الفذة ذهنيًا وكلاميًا- أي بصوته الجهوري وقدرته على الاستمرار مهما كانت موجة رفض ما يقوله عالية في القاعة، ومهما كانت الشعارات والهتافات المنددة بالتطبيع والصهيونية وعملاء كامب ديفيد- قادرًا على أن يستكمل ويتصدى ويتحمل أي رذالات، وفي الوقت نفسه لا يفقد بصمته الإنسانية وحنوه حتى على مخالفيه ومهاجميه.

لقد بقيت العلاقة بين السياسي ومعه المثقف وبين الأمن بغير رصد ودراسة معمقين يعطيان الظاهرة حقها، ابتداءً من كيف تبدأ العلاقة وكيف يكون مسارها بسلبياتها وإيجابياتها، وما انعكاساتها على الحياة السياسية والثقافية، وأيضًا على تأمين المجتمع وصون استقراره، وما نتائج الخلل الذي قد يلحق بها على المدى الطويل، خاصة عند مفاصل التغيير الدرامية في مسيرة الوطن.

وهذا لا ينفي أننا قرأنا نتفًا عن هذا الموضوع متناثرة في مذكرات بعض الساسة وبعض المثقفين، خاصة ممن شاءت الظروف أن يكونوا مستهدفين حتى إن لم يعودوا فاعلين!
                                
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 مارس 2018.

No comments:

Post a Comment