Wednesday 28 March 2018

الخروج من قندهار.. تلخيص مبتسر!





لو كان الأمر بيدي.. أي كنت صاحب قرار في النشر بصحيفة أو دورية محترمة.. لنشرت النص كاملًا دون أدنى تدخل.. ذلك الذي كتبه أستاذ طب القلب المرموق البروفسور شارل بشري مجلى، عاشق فيروز والمتيم بتحليل ألحان الرحبانية وكلماتهم.. والمتفاني في فهم أسرار لغتنا العربية، وهو من تسري الوطنية المصرية في خلاياه كلها، حيث تحمل كل خلية ميكروسكوبية كل التركيبة الحضارية والثقافية المصرية، لنجد كل ذرة منقوشًا عليها أناشيد إخناتون ومزامير داود والموعظة على الجبل ومحكم التنزيل القرآني، جنبا إلى جنب فصاحة الفلاح الفصيح وجسارة شهداء عصر دقلديانوس وأغوار معاني لاهوت كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية القويمة وفقه الليث بن سعد وتجليات آباء الرهبنة وأقطاب التصوف.. وكفاية كده!

لقد كتب الدكتور شارل بعض وقائع ما جرى، فيما يمكن أن أسميه أنا عصر الشهداء الثاني، الممتد من منتصف السبعينيات إلى الآن، وذلك عبر ما عاشه كطالب في كلية الطب جامعة أسيوط، التي التحق بها عام 1976 وتركها عام 1981 إلى طب القاهرة حيث تخرج عام 1982، ونشر ما كتبه على صفحته في "فيسبوك" ووزعه على ثماني حلقات ووضع له عنوانا هو "الخروج من قندهار"!

إنها شهادة حية على حقبة حالكة السواد والجدب في تاريخ المحروسة، تتجاوز في فداحتها حقبة عصر دقلديانوس البيزنطي الروماني، لأن مسطرة الحساب ومعاييره في عصرنا أعمق مضمونًا وأشد انضباطًا، بحكم عوامل كثيرة ثقافية وحضارية وعقيدية.

إنه شاب تأهل للالتحاق بإحدى كليات القمة، تربى في بيت عريق في تقاليده وقيمه العليا، ابتداء من منظومة الأخلاق السامية المتسامحة الرفيعة، وليس انتهاء بالإخلاص في عبادة الله ومحبة خلقه، وممارسة واجبات الأخوة والجيرة والصداقة مع الأهل من المسلمين والمسيحيين!

ثم إنها مدينة جامعية معلوم طبيعة مجتمعها عند كل من دخل الجامعة وبحكم الشريحة العمرية لقاطنيها! وبعد ذلك إنه الشفق الدامي ومن بعده الغسق النازف وعتمة بلا قمر ولا نجوم ولا مشاعل، وصمت صار فيه البشر جمادات متجمدة جفت الدماء في خلاياها وتشمعت ملامحها عند انقباضات الخوف والفزع والرعب، شفق وغسق وعتمة وصمت ظهرت فيها كائنات شوهاء تحمل المناجل والمطارق والسيوف والخناجر والمدي من مطاوٍ وسكاكين وتنطلق بلا ضابط ولا رابط ولا قيم ولا رحمة ولا فهم لتحطم وتعيث فسادا وتقتل في الجامعات ودور العبادة والشوارع ووسائل المواصلات والأسواق!

إنه.. وإنها.. وإنه.. فيما رئيس البلاد هو من وراء إشارة البدء فهو مؤسس دولة الإيمان.. وهو الرئيس المسلم لبلد مسلم.. وهو كبير العيلة.. وراعي تقاليد القرية وأخلاقها.. وهو من استدعى فيلق الإخوان المسلمين من منافيهم في دول النفط ومن مكامنهم في مفاصل الريف والمدن وفتح لهم مجلتهم "الدعوة"، واستقبل مرشدهم عمر التلمساني.. وهو من اعتمد الإخواني القديم عثمان أحمد عثمان صهرًا ومقاولًا يمثل رأس المال الإخواني، وهو من أطلق يد محمد عثمان إسماعيل وآخرين لتكوين الجماعات الإسلامية وتسلحها بالجنازير والمطاوي والقبضات الحديدية وتمدها بالأموال لكي تفتك بأي صوت يعلو من حنجرة لا تغطيها لحية أو يحيطها حجاب وخمار، ولكي تصادر أي عقل يعتمد منهجا للفهم والوعي بمقاصد الشرع وسماحة الدين، ولم يدرك أنور السادات أن الأفعى التي استحضرها وكفل لها الدفء ويسر لها الحركة سوف تلدغه وتقتله.

يقدم شارل بشري شهادته فيرسم لوحة مروعة كان هو بشخصه ولحمه ودمه ماثلًا فيها، إذ قرر الذين حكموا أسيوط واستباحوا كل شيء لدرجة التفريق بين الزوج وزوجته في الشارع، حتى إن كان الزوج أستاذًا لهم في الجامعة، أن يقتلوا شارل بشري مجلى طالب الطب الذي لم يقبل الخنوع ولم يستسلم للتمييز والاضطهاد، وانهالوا عليه ضربًا بمواسير الحديد على رأسه وجسده، ثم أغمدوا سكينا في صدره بالقرب من قلبه! ولأن الله موجود وهو ضابط الكل فكانت إرادته فوق كل الإرادات، ورغم كل اللحى وعفن العقول.

لوحة فيها تصوير دقيق مبدع للهجوم على المدينة الجامعية، وتحطيم غرف الطلاب المصريين المسيحيين، وتدمير ما فيها من صور دينية ومن أجهزة كهربائية، خاصة المسجلات التي تساعد على استرجاع المحاضرات.. وفيها رصد مجسد لما حاوله المتخلفون المجرمون من فرض للمذلة والاستكانة والاستضعاف على غيرهم.. ثم كيف كانت المقاومة الإنسانية الباسلة الصامدة من أبناء مصر المسيحيين ومعهم عديد من إخوتهم وأساتذتهم المصريين المسلمين!

نعم لم تكن دولة داخل الدولة، ولكنها كانت دولة أقوى من دولة أنور السادات.. دولة تعدد حكامها الأمراء فيهم الأسماء التي طالما رددتها الألسن ووسائل الإعلام، وطالما ابتلع كثيرون خدعة أنها أسماء تابت وأنابت وأصبحت وسطية معتدلة.. أسماء فيها: أبو العلا ماضي وحلمي الجزار وعصام دربالة وناجح إبراهيم وعبد المنعم أبو الفتوح وعلي الشريف وأسامة إبراهيم.. ولقد برز اسم ناجح إبراهيم في شفق الدم وغسق النزيف وعتمة السواد بأسيوط!

ولم يفلت البروفسور شارل ما جرى في عيد الأضحى 1981 بأسيوط، عندما قتل الإرهابيون العميد رضا شكري الخولي، وتبوّلوا على جثمانه، ومعه ثلاثة ضباط آخرون، و62 جنديًا و21 شخصًا من الأهالي الأبرياء، وأصابوا 237 شخصًا!

ومهما كانت قدرتي على التلخيص بأمانة فلن أتمكن من اختزال لوحة "الخروج من قندهار"، التي رسمها شارل بشري، ولن أتنازل عن تقديم سؤال يبقى معلقًا في وجداني لعلي أجد إجابة عندكم، وهو: كيف تعاظمت قيم المحبة والتسامح والود والإخاء والمواطنة في عقل وقلب ووجدان شارل بشري وبقي سليمًا معافى سويًا مطمئن النفس، زكي الوجدان رغم كل ما جرى؟! ثم كيف للمأفونين أن يكفوا بصرهم ويطمسوا بصيرتهم عن جريمة أنور السادات الكبرى، التي ما زالت فصولها السوداء ماثلة في ربوع هذا الوطن؟!
                                
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 مارس 2018.

No comments:

Post a Comment