Wednesday 5 August 2015

التحـدى والاسـتجابة





إذا قرأت عن قناة السويس.. فإنك تجد إشارة أولى إلى محاولات قديمة بعضها تم وبعضها بقى محاولة للوصل بين البحرين الأحمر والأبيض أو بين النيل والبحر الأحمر! ثم تجد إسهابا فى جذور فكرة إنشاء الممر المائى بين البحرين منذ محمد على باشا إلى أن بدأ التنفيذ على النحو الذى تم على يد فرديناند ديلسبس.. وكيف كانت التقنيات والتسهيلات والعمالة البشرية والإشراف التقنى والأطر القانونية والمعاهدات والأسهم وحركة تبادلها، ثم قد يمتد الخيط إلى مسألة الديون المصرية ودور الأسهم فى التخفيف منها إلى آخره!

ومن ثم فإنك إذا أردت أن تكتب عن قناة السويس فإنك تبقى أسيرا للمادة العلمية وقد علمونا أننا إذا أردنا أن نكتب فى موضوع له مسحة تاريخية أو سياسية أى أكاديمية بوجه عام، فإن علينا أن نفتت العنوان ونضع خطة بحثية نجمع على أساسها المادة العلمية من المصادر والمراجع، حيث يختلف المصدر عن المرجع.. وإذا أردت أن تقدم جديدا فعليك البحث عن مصادر أخرى لم يصل إليها أحد قبلك كأن تكون وثيقة مطوية فى إحدى دور الوثائق أو شهادة كتبها أحدهم فى مذكرات لم تكن قد نشرت أو شهادة أخرى لمصدر مازال على قيد الحياة وكان متحفظا عن النطق بها لسبب أو لآخر، أو غير ذلك من المصادر المعروفة حصرا فى علم مناهج البحث.

غير أن هناك جانبا آخر فى أمر قناة السويس أظنه مازال يحتاج لرصد وبحث وتأصيل وهو ما ألمح إليه الإبداع الشعبى فى كلمات الأغانى الوطنية التى انطلقت متألقة مع تأميم القناة ومعركة السويس، أى العدوان الثلاثى عام 1956، وأعنى بهذا الجانب.. جانب التحديات التى جابهها الشعب المصرى ومعه أمته العربية وكيف كانت الاستجابة لتلك التحديات.. بحيث صدق ما استند إليه المؤرخ الفيلسوف البريطانى أرنولد توينبى حول نظرية التحدى والاستجابة وكيف أن مصر نموذج فريد فى هذا المضمار، وعلى رأى أولاد البلد فإننى سأبدأ من الآخر «هات من الآخر».. حيث أعلن الرئيس السيسى عن تحدى شق قناة سويس جديدة لتمثل مشروعا عملاقا يفتح آفاقا هائلة للتنمية فى إقليم القناة وما حوله فى أطراف الدلتا وسيناء ويكون باكورة خطط التنمية العملاقة المرتقبة بإذن الله.. وضمنا كانت هناك مناشدات مواكبة وسابقة للرأسمالية المصرية أن «تفك الكيس» وتبادر للمساهمة فى بناء الوطن خلال هذه المرحلة، ولكن هذه الرأسمالية التى أراها مازالت تعيش حالة انحطاط حضارى وثقافى مريع أحجمت، وإذا بالشعب المصرى وبكل فئاته وطوائفه يندفع بمدخرات صغيرة ومتوسطة إلى البنوك ليودع فى أسبوع واحد حوالى 65 مليار جنيه هى التكلفة المتوقعة للمشروع.. وكانت استجابة الشعب المصرى مدوية، رغم كل محاولات القوى المضادة وهى الإخوان الإرهابيون ومن معهم، وجزء من الرأسمالية المصرية، وأجزاء من تيارات سياسية مصابة بالعمى الحيسي، ترويع الناس بأن فلوسهم ذهبت إلى بلاعة ولن تعود..

وأن الفوائد لن تدفع إلى آخر النشاز المزرى الذى عايشناه جميعا!.. وانتصرت إرادة الشعب التى هى المكون الأكبر لإرادة الدولة وإذا نزلنا من هذا «الآخر» الذى نعيشه الآن إلى مرحلة سابقة هى مرحلة إعادة فتح قناة السويس الأصلية بعد أن أغلقت لسنوات امتدت من 1967 إلى 1975 جراء حرب وهزيمة 1967 فإننا سنكتشف تجليا آخر لقدرة هذا الشعب ودولته الوطنية على الاستجابة للتحديات، إذ كانت القناة مليئة بالسفن الغارقة والجانحة وممتلئة بمخلفات الحرب من ألغام وطوربيدات وخلافه، ناهيك عن ما تعرضت له بنيتها الأساسية كمجرى وكمعدات للإرشاد وللإنقاذ وخلافه من تأثيرات سلبية نتيجة التوقف والحرب لسنوات، وتم تطهير المجرى واستعادة كفاءة تشغيله فى زمن قياسي!

ومن محطة إعادة الافتتاح إلى محطة العبور وحرب الاستنزاف المرتبطة تماما بالعبور والانتصار سنجد ملحمة أخرى هائلة من ملاحم تجلى إرادة المصريين وقدرتهم على الاستجابة للتحديات، فقد أقام العدو ساترا ترابيا هائل الارتفاع وهائل التحصين بمواقع صهيونية عسكرية حصينة داخل الساتر الذى تخرج منه مئات المواسير المتصلة بخزانات النابالم التى يمكن أن تحرق وتبيد أى نشاط بشرى أو آلى على المياه.. ومع ذلك كان صمود جيش مصر وأبناء مصر من مواطنى مدن القناة وقراها هو الحاضنة الجبارة التى انطلقت بها معركة التحرير التى بدأت من الرد المباشر على الهزيمة بمعارك شدوان والجزيرة الخضراء ورأس العش وبورفؤاد.. وبعبور قواتنا على مستويات بدأت بأفراد ثم مجموعة ثم مجموعات إلى أن وصل حجم القوات العابرة لتعمل خلف خطوط العدو إلى مستوى الكتيبة قبل رحيل عبد الناصر 1970.

هكذا كانت القناة وأهل مدن وقرى القناة عنصرا أساسيا من عناصر الاستجابة لتحدى هزيمة 1967.. ثم كان بناء حائط الصواريخ وإنفاذ خطة التمويه الكبرى التى لعبت فيها القناة دورا عجيبا، إذ كانت مياهها ورمال شاطئها جزءا من تلك الخطة، حيث طلب إلى الجنود أن ينزلوا ليسبحوا ويلهوا فى المياه ويجلسوا ليمصوا أعواد قصب السكر ويلعبوا الكرة على رمال الشاطئ بحيث يبدو المشهد مشهد جيش مسترخ لا أمل له فى الحرب!

ونستمر فى السفر عبر الزمن الماضى لننتقل إلى محطة التأميم وعدوان 1956.. وكيف كان اسم القناة فى خطب الزعيم جمال عبد الناصر ملهما للإرادة الوطنية.. لأننا وحتى الآن أى بعد حوالى ستين سنة مازالت خلايا فخرنا الوطنى تتحفز وخلايانا البيولوجية تقشعر إذا ما سمعنا صوته يعلن: «قرار من رئيس الجمهورية مادة واحد تؤمم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية».. ثم هتافات الجماهير المدوية.. فيما هناك من يجلسون ينتظرون إشارة البدء للتحرك للسيطرة على مقر الشركة.. وتأتى أزمة المرشدين بانسحاب الأجانب عدا أبناء الشعب اليونانى العظيم.. فتصمد الإرادة المصرية وتنجح الإدارة المصرية وتصبح القناة نموذجا للمشاريع الوطنية الناجحة المنضبطة، وتصبح معركة التأميم للسيطرة على موارد الثروة الوطنية ولتعويض عزوف الرأسمالية المنحطة عن المساهمة فى خطة التنمية آنذاك، تماما مثلما حدث هذه الأيام.

وفى العمق الزمنى نغوص أكثر لنصل لمحطة الحفر الأولى التى رغم كل العسف والظلم والشقاء الذى عاناه أجدادنا الذين اختطف بعضهم وأجبرت غالبيتهم للعمل بالسخرة، إلا أن هذا الوجه القبيح الذى مارسه بعض الخواجات علينا آنذاك لم ولن يخفى قدرة المصريين على العمل والإنتاج وأداء دورهم فى أشد الظروف وأقساها مناخا ومعيشة.

قناة السويس إذن هى عنوان يجسد فلسفة التحدى والاستجابة وقدرة الشعب المصرى على قبول التحديات وتقديم كل جهده للانتصار عليها..

تلك سباحة فى الموضوع بغير مادة علمية استقيها من المصادر والمراجع.. وسباحة فى مجال آخر أظن أن كثيرين لم يطرقوه ويحتاج لتأصيل أكثر، لأنه حقنا على أنفسنا وحق الأجيال المقبلة علينا.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 أغسطس 2015
لينك المقال:

No comments:

Post a Comment