Thursday 18 February 2016

جهازنا المناعي ... الطامة الكبرى




ازدواج النظام التعليمي، بما رتب ازدواجا مقيتا في الوعي والوجدان والثقافة، ثم تمزق وانقطاع الخط البياني لحركة التاريخ المصري، ثم هجرة المصريين في الترحيلة النفطية وما ترتب عليها من تفشٍ لفلسفة الخلاص الفردي وشيوع وغلبة النمط الاستهلاكي وضياع المدخرات الوطنية، كانت كلها إصابات أعتقد أنها أصابت جهاز المناعة الوطني المصري.

واليوم أستكمل الجزء المتبقي من الإصابة الثالثة المرتبطة بالترحيلة المصرية لدول النفط، وهو جزء يستحق عندي أن نسميه الطامة الكبرى، لأنه إصابة ضربت العقل المصري في الصميم وانسحبت على الوجدان والعلاقات الاجتماعية، والأخطر هو أنها انسحبت على علاقة المصريين بوطنهم وبالمواطنة.

لقد ثبت على مر الأيام أن الغالب أيا كان سبب غلبته يفرض ثقافته ومنهج تفكيره على المغلوب، وفي حالات نادرة يقاوم المغلوب بوسائل متعددة منها أن يهضم ما يأتيه أو يفرض عليه من الغالب ثم يتمثله ويفرزه مجددا بما يكفل الحفاظ على هويته وخصوصيته ويكفل الاستفادة أيضا، وهذا ما استطاعته مصر عبر عصورها المتعاقبة التي دهمها فيها الغالب الأجنبي ودخل أرضها محتلا، ثم آل مآله لأن يتعايش ويتم هضم وجوده وبقيت مصر مصرية، رغم أنها تأثرت بالتأثيرات الجريكورومانية، واعتنقت المسيحية، وتأثرت بالتأثيرات العربية الإسلامية واعتنقت الإسلام، وكان لها بصمتها على الجميع بما في ذلك المسيحية والإسلام معا!

والذي جرى بعد الانفتاح وضياع عائد نصر أكتوبر الذي أنجزه أبناء كل فئات الشعب المصري، خاصة الفئات الواسعة من المستوى الأدنى والأوسط، وقليل من الأعلى، والمستويات هنا تنصرف إلى المعيار الاقتصادي والاستهلاكي، هو أن المصريين قرروا الخروج، ولدينا نوعان منه، خروج إلى أمريكا الشمالية كندا والولايات المتحدة وإلى أوروبا وأستراليا، وكان معظم المهاجرين من المواطنين المصريين الذين يدينون بالمسيحية، ثم نسبة من العقول المصرية التي لم تجد سبيلا لتؤدي دورها داخل الوطن فبقيت هناك أو عادت ثم هاجرت.. وهي هجرة مغايرة تماما للهجرة لبلاد النفط.. لأن الأولى عادة ما تؤجج وتعمق الشعور الوطني لدى أصحابها.. أما الثانية فكانت الطامة الكبرى كما أسميها.

لقد اتضح أن المصري إذا جاءه الغالب إلى أرضه تعامل معه على النحو الذي سلف، ولكنه أبدا لا يتوحد به.. أما المتغير الخطير الذي لا أظن أن أحدا التفت إليه على نحو متعمق فهو ذهاب المصري إلى أرض الغالب والبقاء فيها مؤقتا لسنوات أو طويلا، فإذا به يمارس شيئا آخر، مختلفا تماما عن بقائه على أرضه ومجيء الغالب إليه!

لقد فقد المصريون خصوصياتهم وسمتهم في مجتمعهم عندما ذهبوا إلى هناك في العراق ودول الخليج العربية بل وإلى اليمن أيضا.. فقدوا على سبيل المثال تماسكهم كمجتمع زراعي فلاحي وكطبقة وسطى مدينية، وكلاهما الزراعي والمدني يتسم بالتماسك والتكافل عدا ما يفرضه النشاط الزراعي من تكامل بين سكان المجتمع القروي!!

 ففي الهجرة النفطية صار كل يسعى إلى ميزته الفردية ولو على جثة أخيه من ظهر أبيه وبطن أمه أو من قريته أو من مدينته ووطنه، وكم سمعنا ــــ كما في حالتي إذ تنفطت لعدة سنين ــــــ عن الفروق بين الجاليات الفلسطينية واللبنانية والسودانية في المهجر النفطي وبين المصريين الذين لم يتعلموا ولم يتدربوا على آليات الهجرة وآدابها إذا جاز المصطلح!

وفقد المصريون في هجرتهم هذه مضامين شديدة الأهمية، وجاء بعض الفقد نتيجة ظروف واقعية، وجاء بعضه الآخر كمكتسبات مسلكية لها سمة الانحطاط المسلكي!

كان مضمون العروبة بشقيه السياسي والثقافي من المضامين المتضررة، وفي القلب منه القضية الفلسطينية التي هي قضية أمن وطني قومي مباشر لمصر، إذ اصطدم المرتحلون إلى هناك بنظم قانونية "الكفيل مثلا"، وعدم تمتع الوافد بميزات المواطن، وأحيانا بنظرة سلبية لمصر كبلد، بتركيز البعض هناك على أمور مثل "شارع الهرم – الفول والفلافل – النشالين والبغايا وغيره"، وتنكُر آخرين لفضل مصر عليهم في التعليم والثقافة والفن والدور السياسي، وبدأ التنافس داخل مجالات العمل بين الوافدين يفعل فعله، وكثر الحديث عن اضطهاد الفلسطينيين للمصريين، وعن تنكر السودانيين لهم وإلى آخره.. وهكذا ضرب مفهوم العروبة ومضمونها السياسي لدى المصريين في مقتل!

ثم ضرب مفهوم الوطنية والمواطنة لدى قطاعات واسعة عبر سبيلين أولهما غسيل الدماغ الثقافي من بوابة الخطاب الدعوي الديني الذي غلبت عليه في بعض مجتمعات دول الخليج الأصول الحنبلية، التيمية – نسبة لابن تيمية – والوهابية، وهي بوابة لا وجود فيها لمفردات الوطنية والمواطنة.. فإما هي عصبية نتنة أو أنها صنم أو أن السعي في سبيل تعظيمها والموت من أجلها هو سعي وموت في غير سبيل الله ومن يلقى حتفه دفاعا عن وطنه وفي سبيل استقلاله وحرية ترابه فليس شهيدا!

أما السبيل الأخرى التي قتلت الوطنية فهي العقلية الاستهلاكية التي لا ترى سوى الكاش والرصيد في البنك والمقتنيات العقارية والمنزلية وطنا، وزاد الطين بلة أن تلك الحقب كانت حقب حكم السادات إلى 1981 ثم مبارك وعصابة الفساد طيلة ثلاثين سنة، وكان المصري الذي سافر وعمل في منظومة النفط يراكم كل سنة ما يظن أنه سيتكفل بتلبية احتياجاته "الشقة والسيارة ومحتويات المسكن ومكان للمصيف، وربما رصيد في البنك لزوم تعليم العيال وزواجهم ناهيك عن التزامات مع الأسرة الأكبر في الريف أو المدينة"، ولكنه في كل عام وهو يقرر أن هذه هي آخر سنة بعيدا عن مصر، إذ به ينزل ليجد متوالية التضخم وارتفاع الأسعار والفساد تتعاظم فيجد نفسه عاجزا ليعود أدراجه ثانية محطم النفس كسير الفؤاد، ولذا كان دوما يتساءل مستنكرا أو ساخرا "وطن مين يا عم.. سلم لي على وطنيتك"! وفي خلفيته أنه الوطن الذي لم يمكنه من الستر فيه، ولم يسمح له بالستر فيه أيضا حتى بعد أن سافر واغترب وشرب المرار!

إنني أتذكر حكاية الغربة عند أهلنا في قريتنا عندما وجد أبي عملا كمدرس لغة عربية ودين قبيل منتصف الأربعينيات وذهب بنا إلى مدينة قويسنا ليعمل في مدرسة المساعي المشكورة، وكم كان الحزن والبكاء والإصرار على تزويدنا بكل شيء قبل سفرنا بعد كل إجازة نصف عام أو صيف، بما في ذلك الطحين وأقراص الروث "الجلة" الجافة كي نجد وقودا نخبز عليه العيش!! وكانت المسافة بين بلدتنا في ريف الغربية وبين قويسنا لا تتجاوز سبعين كيلو مترا!.. فما بالك بإحساس المصري وهو على بعد آلاف الأميال حتى مع الطائرات والهواتف والنت وخلافه.. وللحديث صلة مع بقية جوانب الطامة الكبرى.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 18 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment