Friday 19 February 2016

هيكل.. الظاهرة المؤسسية


الأستاذ هيكل

كان يفضل الصمت عندما يتلقى أي دعوة للكلام في حفلات التأبين، وكان يؤثر نقل مشاعر الأسى والعزاء لمن هم أعزاء على الفقيد في رسالة أو برقية قصيرة.. ربما لأنه لم يكن يحب الحديث عن الموت ولا يجيد فن المراثي، كما لم يُجد فن المديح.. وربما لو كان ممكنًا استطلاع رأيه في رثائه أو تأبينه لرفض من فوره، ولفضل انصراف كل إلى عمله ومهمته، وإذا جاء الوقت الذي يتحول فيه الإنسان الفرد إلى مفردة من مفردات التاريخ فليقل البحث العلمي المنضبط بالقواعد المتعارف عليها كلمته التي لن تكون بالقطع "مع أو ضد"، وإنما هي رصد وتحليل وربط واستخلاصات ودروس!

هذا هو الجانب الذي عرفته في محمد حسنين هيكل، وبالحتم فإن غيري لديه عن جوانب أخرى أضعاف ما عندي، وتلك في اعتقادي الميزة التي قد لا تقتضي الأفضلية، كما يقول علماء الأصول، ولكنها تقتضي أن يوصف الرجل بأنه ظاهرة، وأنه كان مؤسسة وطنية وإنسانية.

وحتى يأتي الوقت الذي يتولى فيه البحث العلمي في فروع التاريخ والسياسة والصحافة والاجتماع والسير الذاتية زمام الأمر فيما يتصل بمحمد حسنين هيكل؛ فإنني أظن أن المعالجات ستنطلق من الزاوية الذاتية لكل من سيكتب عن رحيله.. وهذا طبيعي لأن زاد الكتابة في تلك الحالة هو تفاصيل العلاقة بين كل الأطراف وبين الأستاذ هيكل.

فمن زاملوه من جيله، ومن تتلمذوا عليه وعملوا تحت قيادته في الصحافة لهم زاويتهم، وكذلك الحال مع من عايشوه في مطابخ السياسة، وفي ردهات القصور الملكية والرئاسية، وفي المنتجعات والعواصم الأجنبية، بل وفي المسافة القصيرة للغاية الفاصلة بين مقر إقامته وبين مكتبه، وفي المسافة الأقل الواصلة بين سكرتاريته ومعاونيه، وأيضًا من كانوا يقومون على خدمته وضيوفه! كل له زاويته التي تحدد رؤيته ومن ثم رأيه وقناعته!

انتظم عديدون في مجموعته الفلكية، إذا أخذنا الشمس ومجموعتها مثالاً، ولم يفلتوا من جاذبيته وتأثيره، وكان ليلهم ونهارهم وفصولهم الأربعة، ومدهم وجزرهم مرتبطًا بوجوده.. ورفض عديدون أيضًا الخضوع لجاذبيته، وكانوا إما شظايا هائمة في فضاءات واسعة أو كواكب تدور في فلك نجوم أخرى غيره.. ومع ذلك فلم ينكر رافضوه وجوده، وإن أنكروه فكان حالهم حال من وصفهم الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وقد ينكر الفم طعم الماء من سقم!

تبدأ زاويتي تجاهه عندما كنا نلقى العقاب صغارًا إذا لم يجد الوالد أهرام الجمعة تحديدًا، الذي كان يأمر بالاحتفاظ به لحين صدور عدد الجمعة التالية.
ولذا كان أهرام الجمعة بكرامة مقال "بصراحة" يفلت من أن يفرش على الطبلية أو تحت أقدام الكتاكيت أو يعجن برشه ماء لمسح زجاج الشبابيك، أو تلف أوراقه لإشعال النار في الأفران والكوانين!
وما أن عرفت الطريق لبائع الجرائد لأشتري- لنفسي هذه المرة وليس لأبي- حتى أدركت أن هناك صحفًا أخرى غير الأهرام، لأن الأهرام كان وحده المقرر في الدار، ولا أدري لماذا لم تكن الأخبار ولا المصري ولا الجمهورية آنذاك.

وكانت نداءات زملائنا باعة الصحف محفوظة للجميع.. اقرا الحادثة.. اقرا.. اقرا.. اقرا.. ثم اقرا هيكل.

في مارس 1971 كنت ممثلاً للدراسات العليا باتحاد طلاب جامعة عين شمس وكلية الآداب، وكنت في السنة التمهيدية للماجستير، وقررت اللجنة الثقافية باتحاد طلاب الجامعة أن تلتقيه، وتحدد لنا موعد عن طريق فوزية سكرتيرته وذهبنا ودخلنا غرفة ملحقة بمكتبه، فيها طاولة دائرية تحلقنا عليها من حوله.. ودار حوار طويل ولا أدري لماذا سعيت لاستفزازه وجر شكله، فإذا به يحاول التلطيف، إلا أن رذالتي دفعته إلى أن يحسم: "أنت جاي تدخل مباراة معي؟!"، وأحسست بالخطر الداهم فتراجعت، وتفضل هو بنشر الحوار معنا شبه كامل في عدد الجمعة بدلاً عن مقاله "بصراحة"!

وبعدها بسنوات أربع طرقت باب منزله دون موعد سابق، وفتح لي منير سكرتيره الأشقر ذو العينين الزرقاوين، وسألني: فيه ميعاد؟! وقلت وكأنني علم الأعلام: بس قل له فلان من بتوع جامعة عين شمس! وجاء الإذن ودخلت لأجد ابنه الأصغر مستلقيًا يتفرج على التليفزيون في المكان الذي يجلس فيه منير، وجاء الأستاذ مرحبًا وسألني من فوره: أنت ما خفتش تيجي هنا؟! لأنه كان قد ترك الأهرام وانفتحت عليه أبواب جهنم السادات، وتطاول زبانيتها بما هو لائق بهم!

ومنذ 1974 لم تنقطع اللقاءات والحوارات ـــــ منفردة وجماعية ـــــــ داخل مصر.. وخارجها.. وكنت أؤرخ لنظرته لي من خلال كلمات العبارات التي تتضمنها إهداءاته لكتبه لي!!.. من "إلى فلان شابا مناضلا..."، حتى وصلنا إلى "الصديق العزيز فلان..."!

مواقف وحكايات كثيرة وسخونة في الحوار أحيانًا، وغضب منه نادرًا، وكانت أقصى حالات الغضب عندما هرع إليه أحدهم ــــــ وكان فلسطينيًا أردنيًا بالغ الرداءة ــــــ في الصباح المبكر ليطمئن على صحته التي أبلغه فلان ـــــ أي العبد لله ـــــ أنها سيئة، وأنه مصاب بمرض عضال.. ولم يكن ذلك حدث، فطلبني فيما المذكور جالس أمامه وقال عبارة واحدة قصيرة: "يا سي أحمد عندما أكون مريضًا مرضًا عضالاً فستكون أول من أبلغه بذلك"! وقلت من فوري: "مؤكد أن فلانًا أمامك"، فقال: "نعم.. خذ كلمه".. وكلمته بما يناسبه من مخزوني القبيح!

ناقشته في علاقته مع الرئيس عبد الناصر، وسألته عن غرامياته، وعن اعتقاداته الكونية، وعن فهمه لفلسفة التاريخ، وكان كعادته يؤثر الاستماع إلى ضيفه أولاً حتى إذا جاء دوره انطلق!

سيبقى الأستاذ هيكل ظاهرة تاريخية وسياسية واجتماعية وصحفية وإعلامية.. وسيبقى نموذجًا للفرد الذي صار مؤسسة وطنية وإنسانية، وهنا أتوقف لأنه لم يكن يحب الإسهاب في الرثاءات ولا المشاركة في التأبينات.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 فبراير 2016

No comments:

Post a Comment