Wednesday 11 May 2016

في 18 ديسمبر 1969




أعتذر لكل من لاموني على الانقطاع عن الكتابة لأسبوعين، وربما لن يكفي احتياج الكاتب لوقفة مع نفسه ومع مساره- ليراجع ويصحح ويغير أو يؤكد ما هو عليه- عذرا يبرر الانقطاع الذي لن يعدم على الوجه الآخر بعضا يراه "حسنا فعل.. أراح واستراح"!

في الأسبوعين الفائتين صعدت جنوبا إلى دندرة في الصعيد الجواني، وهي المرة الثانية في أقل من عام، حيث انعقد منتدى دندرة الثقافي الثاني، وكان موضوعه "هوية الجنوب"، وأستأذنكم في أن أفرد للموضوع مقالا خاصا في مرة مقبلة.. وفي الأسبوعين جرت مياه كثيرة بعضها رائق صاف، والآخر مليء بالعكارة والشوائب، وكله استفز عندي رغبة الاشتباك، حيث الميدان هو الأفكار، وحيث السلاح هو القلم، وحيث الذخيرة هي مخزون التكوين المعرفي والثقافي واللغوي، وللصدق كما تعودت مع القارئ فإن أشد العكارة كان ما كتبه أحدهم عن الجيش المصري كجهة احتلال لمصر، ورغم أن الزميل الأستاذ الصديق حمدي رزق قام بالواجب على خير وجه إلا أن في الجعبة ما يمكن أن يكون نافلة مضافة!

ولقد كنت أثناء احتدام مسألة جزيرتي تيران وصنافير أعد لنشر وثيقة مهمة لا تتصل مباشرة بالمسألة وإنما تتصل بالعلاقات المصرية- السعودية في حقبة الستينيات، لتكون جزءا أراه مهما من مناقشة أوسع تتجاوز الجزيرتين، لأن بعضا من الذين أشعلوا الأزمة ونفخوا في نيرانها استندوا إلى الرصيد السلبي الرهيب في العلاقة بين البلدين خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات، بل إن بعضهم ما زال يلجأ إلى هذا الرصيد- حتى هذه اللحظة- ليرجح كفة الصدام والخلاف على أي كفة أخرى.

الوثيقة التي بين أيدينا هي تفريغ مختصر لمحضر الجلسة الأولى من مباحثات الرئيس جمال عبد الناصر مع الملك فيصل يوم 18 ديسمبر 1969، وسأبدأ بالنقل الحرفي لما في الوثيقة:

عبد الناصر:
هذا اللقاء هام لاستعراض عدة نقاط تهمنا وتهمكم. أحب أن أذكر أننا نسعى في مصر منذ 67 لتكون العلاقات قوية بيننا. الشعب هنا رحب بهذه الزيارة.. لأننا نشعر أن هناك علاقات غير طبيعية، ويجب أن تزول.. وللمصلحة العربية يجب أن تكون العلاقات طبيعية.

على مر السنين كانت دائما العلاقات بين مصر والسعودية طيبة. أعتقد أن من فوائد هذه الزيارة.. قطع الطريق لمن يصور سوء الأمور.. نحن نعتقد أن لقاء بين مصر والسعودية.. سيكون له أثر في مصر والسعودية والأمة العربية والعالم.

وما أساء للعلاقات أصلا بيننا هو اليمن.. وانتهى هذا الموضوع.. مرة أخرى أرحب بالأخ الملك فيصل والإخوان.. وأرجو أن يكون هذا اللقاء مفيدا لبلدينا، ومساعدا لنجاح مؤتمر الرباط.

فيصل:
كل ما تفضلت به هو الصواب، والخلاف شاذ.. والطبيعي أن نكون متآخين ومتعاونين. فمنذ الملك عبد العزيز كانت العلاقات قوية وطبيعية، ما حدث بعد ذلك هو غير طبيعي. سبق أن قلت يا سيادة الرئيس: إن أي خلاف يحدث دائما نتيجة طرف ثالث.

أملنا أن نعود لما كانت عليه العلاقات سابقا.. وهذا واجب مفروض على كل منا، يسعى إليه كل منا. مصلحة البلدين- من الناحية الدينية والوطنية- في أن نكون يدا واحدة وجسما واحدا، وعلى المسؤولين قبل الأفراد العاديين أن يهيئوا الظروف لذلك. ونطلب من الله أن يعاوننا في ذلك، والله لا يقبل سوى العمل الصالح المشترك.

عبد الناصر:
الحقيقة مرت ظروف تركت آثارا- منذ حرب اليمن عام 62 لمدة 5 سنوات- على العلاقات بيننا، والحقيقة سارت في طريق لم نكن مخططين له، ولم تكونوا أنتم مخططين له.
إننا نعتبر لقاءنا عام 67 في الخرطوم هو تاريخ فاصل في العلاقات بيننا، ومنذ 67 لا علاقة لنا بهذا الموضوع. تعليماتي لكل فروعنا.. ألا تدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية، مهما يحدث.. وهدفنا إسرائيل.

وسائل الإعلام قد تعتقد أن علاقاتنا فاترة، وتتصرف على هذا الأساس.

أرسلت حسين عباس زكي مرتين ليوضح كل الأمور وسياستنا في كل الجوانب، وأرسلت الدعوة.

تحدث عباس معي، وقلت له: إن أي واحد عمل حاجة بعد 67، نحاكمه قبلكم، ونرسله لكم لتحاكموه، لأن توجيهاتي غير ذلك. هناك دائما من يحاول أن يستفيد من ذلك، ووددت أن أعلن ذلك في الاجتماع العلني.

فيصل:
بعد اجتماع الخرطوم بقيت بعض الرواسب، وسعى البعض لتوسيعها، ولمصلحة البلدين يجب أن نقضي عليها الآن.

إن هناك من قبض عليهم مؤخرا في السعودية، ادعوا أن لهم بعض الاتصالات مع أفراد أو أجهزة في مصر.. وهذا حديثهم. وقد احترت مع الزملاء ماذا نعمل بهم؟ هل نحاكمهم؟ فقد يدلون أثناء المحاكمة بمثل هذه الإفادات، وهذا يؤثر علينا، هل نحكم عليهم دون محاكمة، نتركهم ونفلتهم؟ مؤخرا اضطررنا أن نؤجل تصرفنا.

في البداية كانت مجموعة محدودة من الشيوعيين، ثم توسع حديثهم.. عن أن لهم علاقات واتصالات مع مصر، ومع جهات ودول أخرى. وقد أجلت البت، ووددت ألا أفتح هذا الموضوع.

عبد الناصر:
ليس لنا فروع حزبية في العالم العربي، ولم نوافق على ذلك.. مثل حزب البعث.

فيصل:
الله يخرب بيت بيت حزب البعث!

عبد الناصر:
لقد رفضنا أن يكون لنا أي فرع حزبي، حتى في المنظمات الفدائية.. مثلما حدث في سوريا فشكلت "الصاعقة" ووضعنا بالنسبة للشيوعية واضح، القوميون العرب انقلبوا إلى شيوعيين.

فيصل:
لدي وثائق تبين أن شخصا من الرئاسة دخل في الموضوع، وأنه سامي شرف، وهو يعمل بأوامركم.

عبد الناصر:
مستعدين بعد المؤتمر- لنبعد الشك- أن نأخذ خطوة، وإلا الشك سيبقى في النفوس، وأن ترسل شخصا هنا أو هناك للتحقيق في حقيقة هذا الموضوع.

فيصل:
عن التصرفات.. مثلا الأهرام، ويقال عنه إنه الناطق الرسمي للرئيس عبد الناصر شخصيا، وعن جميع الإذاعات الخارجية، ورؤساء دول ورؤساء وزراء يعلمون ذلك.

عبد الناصر:
الأهرام لا يمثل رأيي.. وقد يكون أحيانا يكتب رأي زكريا نيل.

نواف:
يا سيادة الرئيس.. كمثال للأهرام، فقد سبقت العالم بخبر الزيارة.

عبد الناصر:
في الحقيقة ان الجريدة الرسمية هي الجمهورية، وقد يكون المخطئ رياض- محمود رياض- في عدم نشر الخبر. إن الأهرام جريدة مطلعة، وهيكل أنشط صحفي، ويبقى 12 ساعة في الجريدة.

مثلا يقال: إننا مع اليمن الجنوبية، بينما نحن ليس لنا علاقات طيبة مع اليمن الجنوبية.. والحقيقة فمازال المظهر العام به فتور، ويجب أن نعمل على إزالته، وأعتبر الزيارات تساعد على ذلك.

فيصل:
إن شاء الله الأمور تتحسن، ونكون في حسن ظن الجماهير المتحمسة التي قابلتنا اليوم.

عبد الناصر:
تحدثنا في الوطن العربي، وجدول أعمال مؤتمر الرباط، ونستأنف باكر. أنا قلت للملك إننا مستعدين أن نعمل معاهدة أخوة وصداقة.

انتهت الوثيقة التي أظن أنها ذات قيمة سياسية مهمة حتى هذه اللحظة، رغم أنها تعود لسنة 1969، منذ 47 سنة!

وقيمتها السياسية في نظري- كتلميذ في مجال التاريخ- تكمن في عدة نقاط، منها قدرة رجل بحجم جمال عبد الناصر أن يقدم رؤية نقدية لمسار كان يمضي فيه لفترة ما ثم سعيه لأن يغيره بما يبدو أنه تصحيح ذاتي، وبالقدر نفسه كان فيصل لديه القدرة نفسها، ومنها أن رجلين بحجم ناصر وفيصل أكدا أن العلاقة بين البلدين تعد حجر زاوية أساس في علاقات عربية ودولية صحيحة وسليمة، ومنها لفت الانتباه لدور طرف ثالث كان يسعى باستمرار لتخريب العلاقة بين البلدين، وهنا جاءت الإشارة لحزب البعث.

ثم إن قيمتها السياسية تكمن أيضا في حفز الذين يتخذون من مواقف مصر إبان الفترة من 1958 إلى 1967 معيارا يقيسون عليه كثيرا من المواقف والظواهر دون أن يلتفتوا إلى ما استجد وعبرت عنه تلك الوثيقة وغيرها مما لم ينشر بعد.

وفي اعتقادي أن العلاقات المصرية- السعودية الآن وفي المستقبل لا بد أن ترتكز على أسس تكفل لها الدوام والاستمرار المؤسسي، بحيث لا تتأثر بخلافات طارئة أو محدودة أو تنعكس عليها أمزجة مسؤول هنا أو هناك، وفي هذا تفاصيل سأحاول الوفاء بها في مرة مقبلة.
                                    
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 11 مايو 2016.

No comments:

Post a Comment