Wednesday 18 May 2016

مقدمة عن "الكنز"

 
لوحة تجمع حول أخبار الصباح للودفيج دويتش

كلما حاولت التلفيق خانتني مهاراتي المعنية بهذا اللون من ألوان السلوك البشري، لأنها مهارات ضمرت وتعطلت منذ مضي زمان التلفيق عمال على بطال، كتلفيق أسباب وجود بقايا دخان "تبغ" سجائر في جيب القميص "التروكلين"، الذي عمدت عزيزة إلى عرضه على الوالدة بعد أن قلبته قبل أن تغطسه في طشت الغسيل النحاسي الضخم، المجاور لوابور الجاز المتأجج تحت "باستيلة" غلي الملابس وتقليبها بعصا الغلية!.. وكانت السجائر آنذاك من ماركة "وينجز" تشترى "فرط" وبدون فلتر، لذا كانت تسقط منها شعيرات التبغ!.. ثم تلفيق أسباب عدم الانتظام في درس اللغة الإنجليزية الخصوصي للشهادة الإعدادية، واضطرار الأستاذ عبدالشافي صفا لسؤال الوالد وكيل المدرسة زميله عن سر تغيبي، فيما الوالد مشدوه لأن "الأفندي" ابنه يطلعه على كراسة الواجب والتمارين محلولة وحاصلة على درجة عالية ونجمة!!.. وغيره من المحاولات التي لا بد أن كثيرين مروا بها، ولا يريدون البوح بما كان، لربما عايرهم أحد بما كان منهم قبل ستين سنة!

حاولت أن ألفق فأكتب عن "الشنطة" الكنز الذي أهدانيه الأستاذ الدكتور إبراهيم فوزي العالم الجليل، والشخصية الجذابة الفذة، ثم الوزير الأسبق للصناعة، وقد ضم الكنز مجلدين يحملان اسمه، أحدهما بالإنجليزية عن "مصر في عام 1800 مشاهد من كتاب وصف مصر"، والدكتور إبراهيم ومعه روبرت أندرسون هما المحرران، والمجلد الثاني كتاب من تأليفه وعنوانه: "عبور اليم إلى ميكانيكا الكم"!

ومع كتابي الدكتور إبراهيم درر أخرى في الكنز بعضها من تأليف والآخر من إعداد الأستاذ الدكتور محمد رجائي جودة الطحلاوي، الأستاذ بكلية الهندسة جامعة أسيوط، ورئيس الجامعة ومحافظ أسيوط الأسبق.. وهو مفاجأة بكل المعايير.. ومن عناوين كتبه نستطيع أن نتبين عمق المفاجأة.

فهذا كتاب مرجعي عن سكان الصحراء الشرقية المصرية "المعازة - العبابدة - البشارية"، وذلك كتاب عن "رواد التعدين والبترول وعلوم الأرض في مصر"، وآخر عن "الرائدات" في المجال نفسه، وثالث عن "أبي الحسن الشاذلي رحلة الاغتراب من زعفران إلى عيذاب"، ورابع عن "عيذاب" دراسة تاريخية وجغرافية جيولوجية لثغر عيذاب على البحر الأحمر، وخامس عن سيدي "أبو العباس المرسي.. حارس الإسكندرية وقطبها الغوث"، وسادس عن "الحافظ جلال الدين السيوطي".. وكتب أخرى.. وهكذا نجد أنفسنا أمام عالم علمي أكاديمي ومسؤول تنفيذي رفيع.. ثم صوفي يشع الصفاء من كلماته.. وربما قد نعلم صدفة أو غير صدفة أنه قطب الوقت!

وتسألني حضرتك عن علاقة ذلك كله بالتلفيق فأجيب أنني منذ عدة أسابيع أحاول الكتابة لـ"المصري اليوم" عن محتويات بعض هذه الكتب، وخاصة "ميكانيكا الكم" و"سكان الصحراء الشرقية"، وكان ذلك سهلاً لو اتبعت الطريقة التي يعرفها المحترفون فيلتقطون شيئًا من المقدمة، وشيئًا من الخاتمة، ثم يعرضون لفهرس المحتويات، ثم يمرون بعينيهم على الصفحات فيلتقطون فقرة أو أكثر من كل فصل، ويخلط كل ذلك ببعضه، ومع السبك اللغوي وبعض البهارات اللفظية يكون "عرض الكتاب" قد تم!!.. غير أنني لم أستطع أن أسبك التلفيقة على ذلك النحو.. وجلست وكأنني بصدد دخول امتحان نهاية العام في المقرر، الذي لم يحذف منه الأستاذ سطرًا واحدًا، وكلما أوغلت في القراءة، استعصت الكتابة السريعة، والشيء المثير للغاية هو أن العبد لله كان وأصبح وأمسى وما زال بليدًا في أي مقرر يتصل بالفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، ولم تفلح الخيزرانة، ولا الدروس الخصوصية ولا سخرية الفصل كله في أن تردم الفجوة بيني وبينها، ثم فوجئت أن الساحر صاحب ميكانيكا الكم قد استدرجني لأقرأ وأستمر.. وما زلت لم أنته!!. وعندما أتم القراءة وأستوعب وأفهم وأهضم فإنني أستأذنكم في أن امتلك الشجاعة على تقديم ما قرأت!

ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد انتعشت عندي في الذاكرة منطقة الأمانة العلمية التي بدأت أرددها مقلدًا آخرين لفترة، ثم عرفت ماهيتها وتعلمت كيف أحاول الالتزام بها.. وربما يصح القول إن الأمانة العلمية مثلها مثل أي شأن بشري تخضع لمعايير النسبية، فطالما لا يوجد حياد مطلق في مجال العلم والفكر فإنه لا توجد أمانة مطلقة، لأنه كثيرًا - خاصة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية - ما يتصور الباحث أنه بذل كل جهده ووصل لجمع كل المادة العلمية المتاحة والصعبة، ومع الزمن قد يجد الباحث نفسه أو باحثون بعده أن هناك مادة علمية أخرى تم الكشف عنها أو التوصل إليها، أو أن أدوات المنهج البحثي التي اتبعت في مرحلة لم تكن مناسبة أو كانت متخلفة.. وهلم جرا، وعلى جانب آخر فإن "الصدفة" تلعب دورًا مهمًا في بعض الأحيان لكشف مدى الالتزام بالأمانة العلمية، ومنها أن يذكر الباحث أو الكاتب المصدر أو المرجع الذي استند إليه واستقى منه أو نقل عنه، وبحكم عملي الصحفي فقد اضطررت أن أضع عبارة محددة مع كل خطاب أطلب فيه من أحد السادة الباحثين أو الكتاب كتابة مقال في موضوع ما وهي عبارة تقول "يرجى التكرم بالإشارة إلى أية مصادر أو مراجع، وكذلك إلى الإنترنت في حال استقاء المادة المكتوبة منه"! ذلك أنني والمشرفين على صفحات الرأي وغيرها اكتشفنا منذ عدة سنوات طوفان النقل من "النت" بغير أدنى حرج أو إشارة.

ثم أختم بواقعة ما زلت أتألم لها ومنها إذ حدث عام 1984 أن تفضل أحد كبار المؤرخين من أساتذة الجامعة بالكتابة الدورية لصفحات الرأي التي كنت أشرف عليها في إحدى الصحف العربية، وذات يوم تلقيت منه مقالاً عن السودان بدأه بمقدمة يصف فيها الجسر الخشبي الواصل بين أم درمان وبين الخرطوم.. وما أن نشرت المقال حتى بادرني زميلي رئيس قسم الاقتصاد، وكان سفيرًا سابقًا للسودان في بعض العواصم المهمة وبأدب شديد: "يا زول.. يا أخي مقال الدكتور فلان اليوم عن السودان منقول في معظمه عن مجلة ساوث البريطانية، ولم يلتفت حتى للأخطاء التاريخية التي وقع فيها الكاتب الأجنبي.. لأن الجسر الخشبي هدم منذ الثلاثينيات"!!

وعندها هاتفت صديقي المؤرخ الكبير وسألته: "لو أن طالبا للدكتوراه نقل من مصدر ولم يشر إليه وأنت المشرف ماذا تفعل؟!"، وأجاب من فوره "أعاقبه بقسوة".. ثم وبذكاء شديد فطن للأمر وانفجر ضاحكًا: "يا ابن الإيه.. أنت كشفتها؟!!" وقلت نعم.. فأجاب ببساطة: "لو كنت أكتب لدورية علمية لما أهملت الإشارة، وأنا قلت في نفسي كله كلام جرايد ولا أحد سينقب عن مجلة ساوث".

ولم يدر بخلد الدكتور المؤرخ أن الصدفة ستجعلني أنشر دون أن أدقق، وستجعل زميلي السوداني المثقف الرفيع الذي يداوم على قراءة الدوريات المتخصصة يقرأ المقال ويكتشف الخلل.. ولا أدري هل هي صدفة أم لا أن يستهين الكاتب بالكتابة للصحافة السيارة، معتبرا إياها أقل مستوى من الدوريات العلمية.
                               
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 18 مايو 2016

No comments:

Post a Comment