Thursday 30 June 2016

الحب أساس التجديد




لم - وربما لن - يلتفت كثير من المشاركين في صخب "دوشة" تجديد ما يسمونه "الخطاب الديني" إلى جوهر المسألة ولب المشكلة، وهو ضمور المكنون الوجداني الروحي لدى القائمين على شؤون التعليم والدعوة، والمنخرطين في جمعيات وأحزاب تزعم لنفسها الاعتماد على المرجعية الشرعية الإسلامية!

إنه ضمور لم يقتصر على ادعاء التمسك بظاهر النصوص خشية الانحراف بتأويلها، وعلى الجفاء للرسول وصحابته وآل بيته بتحريم وتجريم التشفع والتوسل، بل امتد إلى كل ما هو إنساني ضارب الجذور في الحضارة الإنسانية والثقافة المجتمعية ابتداءً من التعامل مع المخالف في العقيدة والمذهب، رغم أنه من المنتمين للدين نفسه، وليس انتهاءً بالفنون والآداب والقيم العليا الإنسانية النابعة من تفاعلات الإنسان مع المكان والزمان عبر الحقب والعصور.. بل إن الأكثر بشاعة هو مخاصمة الذوق الإنساني في المظهر، حيث اللحى الحاخامية غير المهذبة والزي غير المعتنى بهندامه، وإن كان اعتناءً فهو لإظهار الترف الخالي من السمة المصرية الشعبية أو حتى الأزهرية، حيث لغطاء الرأس المعتاد شعبيًا والمعتمد أزهريًا رونقه الخاص، وللغترة المرسلة بغير عقال رونقها ولكن في مجتمعاتها!!

إنه الضمور الذي يجعل من الكلام المستند إلى ما يقولون إنه قياسات واجتهادات مستنبطة من مصادر دينية يجعله أعلى من تلك المصادر، ومعظمه متجه إلى التجريم والتحريم وإهدار الدماء والتفسيق والوصم بالزندقة، مثلما سمعت بأذني ذلك المتكنى بأبي إسحق الحويني، والآخر برهامي وهما يزندقان المسلم الذي يود إخوته المسيحيين ويدافع عن حقهم في الاعتقاد والانتماء.. ومن عجب أنهما لم يلتفتا إلى أن القرآن الكريم عندما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم خاطبه باسمه، وعندما ذكر المدعو عبدالعزى بن عبدالمطلب ذكره بكنيته أو لقبه "أبي لهب"، وهو ما لقبه إياه أبوه عبدالمطلب لوسامته!! وكذلك يقال أبو جهل لمن اسمه عمرو بن هشام، ولذلك ليست صدفة أن نجد قادة الدواعش ومعهم معظم قادة المتسلفين يفضلون أن يعرّفوا بأبي فلان وليس بأسمائهم الحقيقية!

ما علينا، وأعود إلى جوهر المسألة ولب المشكلة فاستطرد بأننا إذا وضعنا كل الأطروحة الدعوية في سياق تنمية الوجدان الجمعي باتجاه مرتكزات أراها الأساس في مسألة استخلاف الإنسان في الأرض، فإن كثيرًا من ظلام التشدد المتسلف سيتبدد، وأول هذه المرتكزات هو "الحب"، ففي المأثور الذي يراه البعض حديثًا قدسيًا ويضعفه البعض ولا يجزم أحد بأنه موضوع "كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق كي أعرف"، وبصرف النظر أو بالأصح مع الأخذ في الاعتبار كل ما جاء من تفسيرات وشروحات حول المعنى إلا أن "الحب" أساس لا سبيل لإنكاره.. وفي هذا حدث ولا حرج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيمة الحب في مسيرة الرسالة لدرجة أنه ميز بين أصحابه وأحبابه، واصفا الأخيرين بأنهم من يأتون بعده ولم يروه وآمنوا برسالته، واعتقادي أنه من بوابة الحب تنفتح بوابات التكافل والتراحم والرحمة بخلق الله.. مطلق خلق الله، وبوابات مكارم الأخلاق كلها من كرم وشجاعة ومروءة وشهامة ووفاء وفروسية وسعي للعلم وللمعرفة وبناء للفرد وللأسرة وللمجتمع بناءً سليمًا لا يعرف الكراهية ولا النبذ ولا التمييز بسبب دين أو مذهب أو طائفة أو لون أو عرق أو ثقافة أو جهة إلى آخره!

ولأن محترفي التشدد والإرهاب والتطرف أنانيون لا يرون إلا ذواتهم في كل مرآة رأيناهم غلاظًا أفظاظًا لا تعرف قسمات وجوههم انبساط الفرحة والاستبشار والترحيب بالاختلاف وقبول المختلفين بقدر ما تعرف تقلص التجهم والزعيق الصارخ بالوعيد والويل والثبور وسواد الخواتيم ونفي كل أمل في رحمة من كتب على نفسه الرحمة سبحانه وتعالى عما يصفون!

"الحب"، كان هو البوابة الفسيحة التي تجلت من خلالها أسمى الخصوصيات الإنسانية المتحضرة لمصر المحروسة عندما اختصت دون غيرها من بقاع الكون باستقبال خمس أسر رسولية.. سيدنا إبراهيم وأسرته، وسيدنا يوسف وأبيه يعقوب وأسرته، وسيدنا موسى وأسرته، وسيدنا عيسى والعائلة المقدسة، ثم آل بيت النبي الأطهار عندما وجدوا فيها ملاذًا من عسف الأمويين ومن بعدهم العباسيين!!.. وعندما تميزت مصر المحروسة بمهرجانات الحب، ممثلة في أعيادها وموالد رموزها من العذراء إلى مار جرجس ومار مينا، وبقية الشهداء في العصر الروماني، إلى آل البيت والأقطاب الدسوقي والبدوي والكبار الشاذلي والمرسي وابن عطاء الله والآخرين الذين لا تخلو من شواهدهم بقعة في أرض مصر، ومن حول مشاهدهم يتفانى الناس في حب بعضهم البعض، مؤثرين غيرهم بالطعام والشراب والإنفاق، وقائمين على خدمة الحشود حملاً لأحذيتهم وتنظيفًا لدورات المياه "الميضأة" التي يتوضأون فيها!!

حب الحياة بإعمار الأرض بالعلم مع العبادة وربما قبلها وبعدها "وعلم آدم الأسماء كلها"، فيما الملائكة يقفون عند حد "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، وحب الخلق باعتبارهم تجليات الخالق جل وعلا وعلى قاعدة "انظر النقص في نفسك وانظر الكمال في خلق الله"، ولا تتعالى ولا تتكبر حتى ولو كنت سيد الطائعين ومن المقربين، لأن أم المعاصي والكبائر كانت ما ارتكبه إبليس من تعالٍ وتكبر وتمييز بالمقارنة بين المادة التي خلق منها والمادة التي خلق منها آدم فكان مصيره ما كان، رغم أنه كان من المقربين!!

ثم مد الخيط إلى منتهاه إذا كان لمسيرة الحب منتهى، وأظنها بلا منتهى، إذ كلما بلغ منها الراقي مرتبة انتقل إلى ما هو أعلى وأنقى وأطهر وأكثر تجردًا "أحبك حبين" أعلاهما هو "أنك أهل لذاكا"، كما أشارت رابعة العدوية إحدى علامات الرقي الوجداني في مسيرة المحبين!!

إن التجديد إذا لم يصل إلى جوهر الأمر ولب المشكلة، بقطع أية صلة بين أولئك الغلاظ الأفظاظ المجردين من المشاعر الإنسانية محترفي الترهيب والوعيد والتهديد، والزاعمين أنهم وحدهم الصيغة الصحيحة للعقيدة والشريعة، وأنهم وحدهم الأصح في العبادات والمعاملات، فإنه تجديد مزيف لن يلبث وأن تنتهي الدوشة من حوله بانصراف من نادى به وهو الرئيس السيسي إلى شؤون أكثر إلحاحًا أو ليأسه من ثمرة مرجوة ممن أظن أنهم كفيلون بتحقيقه.

ثم إن من لزوم ما يلزم الإشارة إلى أن الخطاب الدعوي فرع من أصل هو الخطاب الثقافي الأكثر شمولاً، وفي هذا أعود إلى التذكير بما سبق وطرحته في هذه المساحة ألا هو خلق روح وطنية عامة للنهوض والتحديث تجعل من التجديد سلوكًا مجتمعيًا في كل مجال داخل البيوت وفي الشوارع وفي التجمعات المختلفة.. وفي هذا تكون تجليات التجديد واضحة في احترام إشارة المرور وطريقة التخلص من القمامة، والتعامل مع الغير في الدوائر الرسمية وفي الأسواق وهلم جرا..

ثم إنه وللمرة الألف خطاب دعوي، لأن الخطاب الديني هو الكتب السماوية المنزلة وما عداها فهو اجتهاد البشر في فهمها وتطبيقها، مما يحتمل الخطأ والصواب والإلغاء والإبقاء شأن كل ما هو من صنع الإنسان ومن إبداعه.. والله أعلم.
                          
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 30 يونيو 2016.

No comments:

Post a Comment