Wednesday 28 June 2017

هل تشبه الليلة.. البارحة؟!




أستكمل الكتابة عن طلعت حرب وتحدي الاستعمار.. دور بنك مصر في التصنيع 1920-1941، مستندا إلى المرجع شديد الأهمية بثراء معلوماته ونفاذية تحليلاته الذي كتبه إيريك دافيز، وترجمه هشام سليمان عبد الغفار، وراجعه وقدم له الأستاذ الدكتور إبراهيم فوزي، الذي لفت نظري إلى أهمية إعادة قراءة المرجع، خاصة في هذه الفترة من مسيرة وطننا، لعل النخبة الفاعلة في مصر من أثرياء ورجال أعمال ومسئولين وغيرهم تستفيد من دروس حقبة من حقب تاريخنا، وهنا أود أن أوجه نداء للمسئولين الآن عن بنك مصر القائم حاليًا أن يتكرموا بطبع هذا الكتاب على نطاق واسع ضمن سلاسل مكتبة الأسرة أو غيرها ليقرأه كل مصري يريد أن يتعلم وأن يقتدي برواد عظام مثل طلعت حرب ومن ساعدوه، ولعل بنك مصر بهذه الخطوة يكون قد رد جزءًا من جميل الرجل الذي حمل أمانة ومسئولية تأسيس البنك.

يشير مؤلف الكتاب إلى أنه كان من وراء تعظيم أثر الدعم الذي قدمته الجماعات الطلابية والبرجوازية الزراعية لبنك مصر قيام التجار من جميع أرجاء القطر المصري بتشكيل غرف تجارية في أعقاب ثورة 1919، وعلى الرغم من عدم الوقوف على ما يشير لانغماس هذه المؤسسات في الترويج لشراء أسهم بنك مصر فإن هذه الغرف التجارية كانت شرسة في دعوتها للمقاطعة، وأصدرت عدة بيانات تدعو لسحب الودائع من البنوك الأجنبية وتحويلها لبنك مصر، كما كان مطلبها بإحلال بنك مصر محل البنك الأهلي الذي كان يسيطر عليه الإنجليز كبنك للدولة على قدر كبير من الأهمية.. فالمقارنات بين البنك الأهلي ذي المكانة وبين بنك مصر الذي تأسس لتوه ساهمت في تقوية مركز الأخير لدى أفراد الشعب بشكل عام، وساعدت دون شك على تشجيع المصريين المترددين الذين كانوا معروفين بتفضيلهم العقارات كمخازن للقيمة عن الودائع البنكية لتوفير مدخراتهم- تشجيعهم- على شراء أسهم وفتح حسابات بالبنك.. وأكد عبد الماجد الرمالي، سكرتير غرفة القاهرة التجارية، أنه لو قام كل مصري بشراء سهم واحد من رأس مال بنك مصر فإن الحصيلة ستكون كافية لتمويل المشروعات الصناعية التي يأمل البنك في القيام بها!

فإذا أضفنا لغرف التجارة، ما قامت به "البرجوازية الزراعية" التي تزايد وعيها بمصالحها فأسست جماعة ضغط قوية عام 1920 هي النقابة الزراعية المصرية العامة لتضغط على الحكومة لاتباع سياسات تراعي مصالحهم، ثم أضفنا الاتجاه لتأسيس وتعظيم الحركة التعاونية؛ لأدركنا أن عملية تأسيس بنك وطني قد تحولت إلى ما يمكن أن نسميه ملحمة عمل وطني واعٍ يعرف المشاركون فيه مصالحهم.. ويدركون أبعاد الصراع مع الرأسمالية الأجنبية!

ولكن الأمور لم تكن وردية على طول الخط، إذ أدى الصراع بين الوطني وبين الأجنبي إلى لجوء رأس المال الأجنبي إلى حيل وتكتيكات تسانده في هذا الصراع، فاتجهت شركات أجنبية كثيرة إلى إعادة تسجيل نفسها كشركات مصرية للاستفادة من القوانين والسياسات التي طبقتها الحكومات الوطنية في تلك المرحلة، ولجأت تلك الشركات إلى استقطاب عدد من أعضاء الطبقة العليا، وعمدت شركات أخرى إلى الاعتماد على المتمصرين خصوصا ذوي الأصول اليونانية والشامية والأرمنية واليهودية من حملة الجنسية المصرية.. ثم اتجهت تلك الشركات الأجنبية التي أعادت تسجيل نفسها إلى الاستعانة بالناشطين سياسيا لا سيما الوزراء السابقين ونواب الوزراء من المتمرسين بالشئون الحكومية وتعقيدات القوانين المتعلقة بعمل الشركات المساهمة المصرية، وكان بعض هؤلاء المستعان بهم يملكون مساحات شاسعة من الأراضي رغم أنهم لم يكونوا أصلا من كبار الملاك الوارثين للأرض، بل جاءت ملكيتهم من انغماسهم في السياسة والوظائف العامة والتي عادة ما كانت تسفر عن رشاوى كمكملات للدخل.. وهنا يتوقف المؤلف عند ظاهرة لافتة وتكاد تكون متكررة من مطالع القرن الماضي إلى الآن، وهي أن القطاع الناشئ من البرجوازية المصرية- أي الذين ليسوا من أصول عائلية ذات نفوذ ولم يكن أجدادهم عمدا أو مشايخ قرى، بل كان معظم آبائهم من صغار المزارعين وموظفي الحكومة المتواضعين- هو القطاع الذي كان أكثر تبعية لرأس المال الأجنبي، وكتب المؤلف إيريك دافيز فقرة خطيرة هذا نصها: "أعضاء البرجوازية المصرية الذين تحالفوا مع رأس المال الأجنبي خلال ثلاثينيات القرن العشرين يجب أن ينظر إليهم باستخدام مفردات الاحتلال الجديد، حيث مثلوا جبهة أخفت المتحكم الرئيسي في الشركات محل الدراسة.. وعلى السطح فقد كان يبدو كما لو أن المصريين أصبحوا ذوي قدرة أكبر على التحكم في اقتصادهم مما كان عليه واقع الحال.. وحيث كان عدد من أعضاء هذه الشريحة هم من قلبوا الطاولة على رأس مجموعة شركات بنك مصر المتعثرة في 1939"!

وسؤالي التقريري الاستنكاري: ترى هل أعادت مصر إنتاج المضمون نفسه مع النشطاء السياسيين بعد سنة 2000 وإلى الآن الذين قلبوا الطاولة على رأس الثوابت الوطنية عندما قبلوا بالتمويل الأجنبي والتزموا بأجندات الممولين من وراء البحار؟!
                            

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 يونيو 2017.

No comments:

Post a Comment