Wednesday 21 June 2017

حول الدراما والتاريخ




هناك فرق يعرفه المشتغلون بالبحث في التاريخ وعلوم إنسانية أخرى بين المصادر وبين المراجع، وكليهما يعتمد عليه في استقاء المادة العلمية، ولا يوجد تسليم مطلق بما قد يحتويه هذا وذاك، وإنما يخضعان للفحص والنقد والمقارنة، والمصدر قد يكون رواية شفهية لأحد المشاركين في الأحداث أو أحد شهودها، وقد يكون مادة صحفية نشرت لتغطية الحدث أو التعليق عليه، حال حدوثه، وقد يكون وثيقة رسمية صادرة من جهة مؤسسية، وقد يكون مذكرات شخصية لأحد المتصلين أو صانعي ومتخذي القرار، وهلم جرا، وكل ذلك يخضع للنقد الداخلي والخارجي، ولغيره من قواعد مناهج البحث العلمي، أما المراجع فهي الأبحاث والدراسات التي تناولت ما جرى بالدرس والتحليل ورصد السياقات، وقراءة النتائج واستخلاص الخلاصات، وهي بدورها - أي المراجع - ليست محصنة من النقد، ولا يمكن اتخاذ ما جاء بها وكأنه الحقيقة المطلقة، وكثيرًا ما ينصح المعني بدراسة ظاهرة أو حقبة، أن يقرأ المرجع من عنوانه ثم مباشرة من فهرسه، وقائمة مصادره ومراجعه، فإذا تبين أنه لم يعتمد بناءً محكمًا لبحثه، إما بالترتيب الزمني، أو بالوحدة الموضوعية أو بكليهما، وتبين أنه خلط بين ما يتعين ذكره في متن البحث، وبين ما يجب الذهاب به إلى الهوامش أو الملاحق، وتبين أنه منحاز انحيازًا فاضحًا لرؤية بذاتها، أو حتى لمعطيات منهجه، بحيث يظهر اعتصاره وليه - من الالتواء - للمادة العلمية، ليثبت ما يريد بصرف النظر عن حجيته أو صحته، وتبين أنه اعتمد مصادر ليست من الدرجة الأولى، ومراجع مشكوكًا في موضوعيتها النسبية، صار المرجع مطعونًا في صلاحيته!

وهنا.. هنا بالذات يأتي الخلل في الدراما بوجه عام والتاريخية منها بوجه خاص، إذ قد يخرج مؤلف ما ليقول إنه اعتمد على عشرات من المراجع في استقاء مادته الدرامية، دون أن يعرف أن العبرة ليست بعدد المراجع، ولا وزن كل منها بالكيلو جرام، أي بعدد الصفحات، وإنما العبرة بما إذا كانت معتبرة وفق المعايير التي ذكرت بعضها في السطور السابقة.. ومن عجب أن تكون بعض المصادر الحية ما زالت على قيد الحياة ويمكن أخذ الرواية الشفهية منها، ومطالبتها بتقديم ما يثبت صحة ما تذهب إليه، وبعد ذلك تخضع الرواية الشفهية من ذلك المصدر للنقد الداخلي، أي لتبين مدى ترابطها واتساقها مع تسلسل الأحداث وعدم خلطها بين مراحل ما جرى وقبل هذا وذاك مدى اللياقة الذهنية والنفسية للمصدر إذ قد يكون قد طعن في العمر وأصابه السهو والنسيان والزهايمر وخلافه، أو قد يكون عامدًا لإخفاء أجزاء من حقيقة ما جرى وغير ذلك من أمور، فإذا تم النقد الخارجي بعد ذلك بمقارنة هذه الرواية بروايات أخرى وبالتثبت من صحة ما تقدمه من وثائق صار المصدر أهم من بعض المراجع!

إن لك أن تتخيل عزيزي القارئ باحثًا معلوم سلفًا أنه عمد إلى اختيار موضوع بعينه لينتقص من شأن من شاركوا فيه، وليثبت لنفسه ولمن حفزوه صحة الفرضيات التي افترضها، أو المقولات التي يروج لها أو المزاعم التي يزعمها أو الأكاذيب التي يريد إضفاء ثوب الصدق عليها، ثم إذا به أيضًا يعض اليد التي حنت عليه فأشرفت على بحثه ووجهته قدر الإمكان، وحاولت تقويم اعوجاج عوده البحثي، فيمتنع مثلًا مثلما حدث من أحدهم، وقد اتخذوه مراجعًا لمسلسل تلفزيوني يثير كثيرًا من اللغط عن توجيه الشكر لأستاذه المشرف عليه، عند طباعة البحث في كتاب!، ويستمر في غيه الباطل حتى يتبرأ منه أستاذه علنًا وعلى رؤوس الأشهاد.. أفعندئذ يمكن الوثوق بمن هذه خصاله البحثية، وتلك سماته الأخلاقية؟!

لقد جاء النقد في مناهج البحث متصلًا بما اقترن بعلم دراسة الحديث النبوي، وأقصد به الجرح والتعديل، وهو بدوره أي الجرح والتعديل متصل بما سمي علم الرجال، إذ لم يكن يكفي أن تنسب الرواية أو الرؤية لفلان الصحابي، وإنما يتم البحث عن فلان هذا وفيه.. عنه أي وجوده من عدمه، وفيه أي وضعه الذهني والخلقي والسلوكي، وما إذا كان يوثق فيه أم لا!! ولعمري فإن كثيرًا من الذين ينتسبون إلى عالم البحث والدراسات العليا، ووظائف التدريس في الجامعة، لا بد أن يخضعوا للفحص ابتداءً من إجادتهم ليس للغات الأجنبية التي لها صلة بالبحث، وإنما للغتهم العربية، أي لغتهم الأم، حيث لا يستقيم لسان كثيرين ممن صاروا بدرجة أستاذ بجملة عربية واحدة صحيحة وإذا قيض لأحد أن يحضر مناقشة رسالة دكتوراه أو ماجستير، سوف يفجع من حجم الجرائم الألسنية، التي ترتكب بحق اللغة العربية، فما بالك وكثير من المراجع بل والمصادر مكتوبة بالإنجليزية أو الفرنسية، خاصة إذا كان البحث متصلًا بمرحلة أو بموضوع من المحتم وجود وثائق أو دوريات بالإنجليزية أو الفرنسية تخصه.

وسيقال إنه يمكن الاستعانة بمترجمين، وهذا وارد، ولكن المشكلة في أن المترجم عادة لا يكون ملمًا بأبعاد الموضوع الذي تتصل به الوثيقة، ولذلك يترجم ترجمة آلية خالية من أية فطنة للمضمون والسياق وما وراء الكلمات!

وفي ظني أن علاقة الأعمال الفنية من مسلسلات وأفلام بالوقائع التاريخية، سوف تبقى معقدة ومثار نقاش، خاصة إذا اتصلت بالأحداث السياسية الجارية وبصميم الصراع الدائر في المجتمع والمنطقة والعالم.
                            

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 22 يونيو 2017.

No comments:

Post a Comment