Tuesday 28 May 2019

التنطع.. والاستنطاع





عندما استقر في وجدان وعقل من عاشوا في القرن الرابع الهجري تقريبا، أن الفقه لم يترك مسألة إلا وتعرض لها وتصدى للفتوى فيها، بما في ذلك المسائل الافتراضية التي تبدو وكأنها مستحيلة الحدوث، أعلن عن إغلاق باب الاجتهاد وتم الاكتفاء بما تراكم من اجتهادات وفتاوى، ومن ثم حدث الركود والتخلف الذي عانت منه المجتمعات المتخذة من الفقه الإسلامي مرجعية لحياتها، ولم يفطن الذين ينتقدون هذا الركود والتخلف أن من أحد أسبابه الجوهرية- وربما كان سببه الرئيسي والجوهري- هو ما سمي بالتنطع الفقهي، ومثاله على سبيل المثال في سياقنا هذا، هو أن الفقهاء افترضوا مسألة تقول لو أن مسلما نوى الصيام وبات وقد علق في حلقه خيط من كنافة فما الحل، لأنه لو ابتلعه فقد أفطر ولو تقيأه فقد أفطر؟.. ثم مثال آخر حول حكم حامل قربة ممتلئة بالفساء هل لو تسرب ما فيها وهو يحملها ينتقض وضوؤه أم لا ينتقض؟!.. وعلى ذلك المنوال امتدت واتسعت مساحة التنطع الفقهي الذي نعيش بعضا ليس يسيرا من ملامحه ومعالمه الآن، ومعه تنطع من نوع آخر أراه مماثلا له في خطورة آثاره على عقل ووجدان المجتمع، إن لم يكن أشد خطورة، وهو ما أسميه التنطع التاريخي، حيث تكاثرت بشكل وبائي حكاية وضع الافتراضات لإعادة مناقشة وقائع وأحداث ومواقف وسياسات جرت وتمت في مراحل سابقة، ومع هذا اللون من التنطع يأتي لون آخر من ألوان الإعاقة المعرفية، قد أسميه الاستنطاع الذي تمارسه أقلام يذكرني أصحابها بحكاية الكومبارس الذي حكمت عليه موهبته المنعدمة وطاقته الذهنية عصامية ثقل الفهم وضحالة المعرفة، أن يبقى مهمشا يدور من حول الكومبارس الأقدم منه ومن حول النجوم، دوران التابع موضع الإشفاق والتندر، ثم تجده يخترع حكايات يظن أنها ترفع من شأنه وتلقي في روع من لم يعرفوه أنه كان مهما، ومنها أنه يتنحنح بخشونة تنم عن خلل في بلعومه وقصبته الهوائية فيسألونه إشفاقا: سلامتك ما أصابك؟ فيرد من فوره: أصلي بالأمس كنت سهران في جلسة ضيقة مع محمود وفريد نراجع الورق، وفجأة طب علينا بدون سابق موعد توفيق وحمدي بدعوى أنهم سيذهبون لفاتن، وأنهم حرصوا على أن نكون معهم، فاضطررت أن أختلق مشكلة ورفعت صوتي لكي يتركونا!!.. ويسأله من يعرفون ضعف قدراته حتى في الكذب: من هم محمود وفريد وتوفيق وحمدي وفاتن؟! فيرد من فوره: المليجي وشوقي والدقن وغيث وحمامة!!.. وعندئذ يكون الضحك والتعليق الإسكندراني هو المتاح!

إن المتنطعين في التعامل مع التاريخ كعلم، لا يدركون أن مد خيط "لو" في الماضي كله، ابتداء من لحظة المشهد الأول لاستخلاف آدم وليس انتهاء بأحداث ثورة يناير مثلا، سيكون حالة فريدة من حالات المسخرة العقلية!! تخيلوا متنطعا يسأل: ماذا لو استمع الله سبحانه وتعالى لرأي الملائكة الذين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ولم يسلح آدم بالعلم ليستخلفه في الأرض.. وماذا لو لم يستجب الله لرغبة إبليس في أن يكون من المنظرين إلى يوم يبعثون وحيازته القدرة على أن ينفذ لذرية آدم لدرجة أن يسري في دمائهم داخل عروقهم؟!.. طبعا هناك عشرات الإجابات يمكن أن تأتي على الأذهان في حال الموافقة على أنها فرضيات سليمة!

وإذا مضينا في الفرضية مع آدم وحواء وإبليس والحية في الجنة ومع قابيل وهابيل، إلى كل ما في معارفنا من ميتافيزيقا ومن أحداث تاريخية، لنصل فنتساءل مفترضين: ماذا لو قام ثوار يوليو بتصفية عضوية جسدية للطبقة إياها ولم تكتف بتصفية مصالحها؟! وماذا لو كانت ثورة يناير 2011 دموية كاسحة انقضت فيها الجموع على قصور ومعازل وعزب ومزارع ومصالح وأشخاص قيادات الحزب الوطني ورجال الأعمال وغيرهم، لتجتثهم عضويا مثلما فعلت ثورات أخرى عرفتها البشرية من قبل، بل مثلما حدث في العراق عندما تم تدميره وإعدام رئيسه وأركان نظامه وفق فرضية استنطاعية قالت إن العراق يملك أسلحة نووية؟! ولقد سبق وكتبت في هذه المساحة منذ فترة لا أذكر مداها، أن هناك منهجين للسلوك البشري في حالة التعرض للخطف والاغتصاب.. منهج يقول لا تستسلم وقاوم وإن مت في سبيل كرامتك وشرفك، وسيكفيك شرفا ومجدا أن ذويك سيفخرون بك صلبا مقاوما، ومنهج آخر يقول إذا لم يكن هناك بد من أن تغتصب وإلا ستموت فاقبل واستمتع بدلا من أن تقاوم وتموت وما ستكسبه سيعود على ذويك، إذ ليس بالشرف وحده يحيا البشر!!.. وإننا لنجد المنهج الثاني يشيع الآن على يد المتنطعين ليس فقط فيما يتعلق بواقعنا الراهن ومستقبل وطننا، وإنما هم يفرضونه بأثر رجعي على حقبتي الخمسينيات والستينيات المنصرمتين.

ومن عجب حتى نفاذ القدرة على التعجب أن من يمارسون هذا اللون من التفكير ويعمدون على إشاعته في مجال الصحافة والإعلام، ليصيبوا الرأي العام بلوثات من التفكير غير العلمي، تراهم يحرصون على الزعم بتطبيق أحدث صيحات المناهج والتطبيقات العلمية في مجال نشاطهم الاقتصادي، وهي مناهج وتطبيقات لا تسمح بإقامة المندبات وإطلاق الصرخات على لبن مسكوب أو على أخطاء وقعت!!

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 مايو 2019.

No comments:

Post a Comment