Thursday 17 September 2015

استعادة ليبيا من أجل مصر





كنت أقف متحدثًا فى المهرجانات السياسية، وأحاضر فى الندوات الفكرية التى يدعو لها الطلاب العرب الدارسون فى القاهرة، وكان منهم فريق قومى أسس «رابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين»، وأنشأ لها فروعًا انتشرت فى البلاد الأوروبية التى يدرس فيها طلاب من الاتجاه نفسه.

وكنت أبالغ فى تعظيم الانتماء القومي، وتحقير الانتماء الإقليمي، وكانت الموجة القومية العربية عالية عاتية، مثل الاتجاه الناصري، فى ذروتها، وأدى ذلك إلى صراعات حتى داخل الاتجاه القومى بين الناصريين وبين البعثيين وحركة القوميين العرب، التى أخذت منحى ماركسيًا لينينيًا، ثم أضيف للصراع ــــ داخل المنظومة القومية ذاتها ــــ تصاعد حركة اللجان الثورية الليبية التى جاءت تنادى بالنظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر وزعامة معمر القذافي.. وهى مرحلة تستحق أن تكتب شهادات عنها لتصبح مادة علمية تاريخية يعتمد عليها الباحثون الذين سيؤرخون لتلك الحقبة ويقرأونها قراءة مسلحة بأدوات المنهج العلمي.. وعلى أى حال كنت قد كتبت فى مقالى السابق عن أن الصفحة الليبية لم تنطوِ بعد، وتوقع كثيرون أن السطور ستتجه إلى ما يجرى الآن، ولكن خاب أملهم إذ وجدوها متجهة إلى حديث عن علاقات وحوارات وأسماء! وفى الحقيقة فإن ما كتبته كان مقدمة لما سيأتى بعده.

ذلك أننى الآن، بل منذ فترة طويلة نسبيًا، تراجعت بدرجة أو أخرى عن الغلو والمبالغة فى تعظيم البعد القومى على حساب الانتماء للإقليم أو القطر أى مصر! وأزعم أننى أعدت قراءة ثورة يوليو وجمال عبد الناصر فوجدت أن مركز الاهتمام وبؤرة التركيز كانت هى مصر، وأن ما تم من تعظيم الفكرة والحركة القومية وتعظيم حركة التحرر الوطنى فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ووصول العلاقة بين القاهرة وتلك العواصم إلى درجة الالتحام العضوي، وكأننا أمام غابة من أشجار التين البنغالى متشابكة متواصلة متدلية الجذور الهوائية، ولا تدرى أى الأشجار هى الشجرة الأم التى بدأت منها الغابة.. أقصد أن جمال عبد الناصر وفريق العمل معه تعمدوا أن تنتظم الدوائر القومية والتحررية فى شبكة تجعل منها السياج القوى والحى لدور القاهرة الذى إن توارى لسبب أو آخر فإن «الغابة» كلها تمثله أو تتمثل به. من هنا فإن ما يحكم موقفى تجاه ما يحدث فى ليبيا الآن، وكذلك ما يحدث فى العراق وسوريا واليمن والسودان والسعودية وغيرها فى الوطن العربى هو مدى تأثيره على مصر كإقليم اعتبره نديم البيطار هو الإقليم القاعدة فى الوطن العربي. لقد عشنا الفترة التى كانت فيها القواعد الأمريكية والبريطانية مفتوحة وفاعلة فى دول الجوار المصري، وعشنا ما قيل واكتشف أنه حقيقى عن أن مصر انتظرت طائرات العدوان فى 1967 تأتى من الشرق فإذا بها تأتى من الغرب يعنى من ليبيا وقواعد هويلس والعظم وغيرها.. ولا أريد أن أنكأ جراحا مع المملكة السعودية، لأننى أعتقد اعتقادا شديدا أن البلدين فى أمس الاحتياج لبعضهما البعض فى هذه المرحلة.. وأن خسارتهما فى مراحل الشقاق والتصادم كانت فادحة عليهما معًا.. وهذا حديث يطول ليس هذا وقته! وعلى ذلك فإن الخريطة دائمًا ما تفصح عن أن الهدف الأكبر والصيد الأثمن هو مصر، وأن إسقاط وتفكيك وتفتيت الأطراف من حول التكوين المركزى المصرى كفيل فى لحظة ما بتفكيكه هو والإجهاز عليه.. وقد ثبت أن العكس صحيح إذ أدى غياب وتهميش الدور المصرى إلى سهولة تنفيذ خطة ضرب الأطراف والقضاء على وجودها كدولة مستقلة دفعت ثمن استقلالها وحريتها فادحًا عبر العقود.

وكانت ثورة الفاتح فى ليبيا .. وثورة مايو فى السودان وانزياح حكم الدكاترة المتمركسين فى سوريا والتحولات التى جرت فى البعث العراقى وانطلاق العمل الفدائى الفلسطينى بمثابة «جبائر» تجبر كسور مصر بعد هزيمة 1967، وتصاعد الأمل فى حلقة جديدة نوعية من العمل القومي.. غير أن الرياح كثيرًا ما لا تأتى بما يشتهى السِفِن بكسر السين والفاء ـــــ أى ربان السفينة وليست السفينة نفسها إذ سرعان حيث لا تمثل عقود أربعة أو خمسة شيئًا فى حياة ومسيرة الأمم والأوطان ما تم الانقضاض على هذه الجبائر من داخل تكويناتها «الاستبداد الشللية الفساد الظلم غياب التخطيط السليم إهدار الموارد النزوع السلطوى الداخلى والإمبراطورى الخارجى لدى البعض.. إلخ»، وأيضًا بضرب وتقويض العلاقات البينية بين مراكز هذه التحولات إذ اشتدت الوقيعة والخلاف ولدرجة التصادم بين بغداد وبين دمشق، رغم أنهما يحكمهما حزب واحد، واشتعلت الحروب الإعلامية والمخابراتية بين بغداد وطرابلس، كما اشتعلت حرب محدودة بين القاهرة وطرابلس.. وهلم جرا بحيث كان المسرح مهيئًا لما جرى بعد ذلك بفترة وهو ما أطلق عليه الربيع العربي!

إن ما حدث للعراق وما يحدث فيه وفى ليبيا وفى سوريا وفى اليمن وكلها كانت بمثابة القميص الحديدى الذى شد أزر مصر وجبر بعض كسور هزيمتها فى 1967، ومثل أملا للأمة فى دورة تحرر وطنى جديدة مدعمة هذه المرة بالنفط وفوائضه الهائلة، لهو تأكيد على ما أذهب إليه وهو كشف وتعرية التكوين المصرى المستعصى تاريخيا وحضاريا وثقافيا وإثنيا على التفتيت والتفكيك! ولذلك وفوق حتمية إنقاذ الشعب الليبى من تلك المأساة الجهنمية التى حطمت وحدته وأنهت دولته وأبادت أمله فى تقدم يتناسب مع موارده وقدرات أبنائه، تجيء حتمية دور مصرى حاسم فى هذا الإنقاذ إنقاذا لمصر ذاتها حتى لا تنكشف جذور تكوينها وتتحطم حوائط تماسكها.. ويتفشى الخراب فيها على النحو الموجود حولها، والذى لا يراه محترفو أن «يقطموا دون أن يلطموا»، لأن المثل الفلاحى يقول: «اللى يقطم قطمة.. يلطم لطمة»، والمعنى ليس فى بطن الكاتب بل هو معلن فى كل مكان.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17 سبتمبر 2015
لينك المقال:

No comments:

Post a Comment