Thursday 14 January 2016

مقدمات السرطان



ربما يؤيدني كثيرون في الاعتراف بأننا لم نتصور أن سرطان الإخوان والسلفيين- بجميع أنواعهم ودرجات وعيهم وعنفهم- قد انتشر في جسد المجتمع المصري على هذا النحو من التغلغل والاتساع، ولدرجة أن الدولة بكامل قوتها تخوض حرباً استطالت في مداها وتطورت في نوعيتها، ومازال السرطان يلتهم مقدرات الوطن قتلا وتخريبا ولا أحد يستطيع أن يحدد على وجه اليقين متى وكيف يتم الاستئصال، ناهيك عن متى وكيف وبمن يتم تحصين الجسد المصري ضد استعادة مسببات المرض فاعليتها!

في أي قراءة للظواهر عادة ما أميل– ربما بحكم الدراسة والتخصص– إلى المدخل التاريخي، الذي قد يفيد في التأصيل لجذور الظاهرة، ويرصد مسارها وتطورها، ويقرأ حاضرها، ليتمكن دارس السياسة من أن يرسم سيناريوهات مستقبلها، وليكون الجهد التاريخي والجهد السياسي في خدمة الممارس المعني بالشأن العام في الأحزاب والتنظيمات وغيرهما، وفي مساعدة صانعي القرار ومتخذه..

أي أن الهدف هو دوما ردم الفجوات بين الرؤى والدراسات العلمية وبين الممارسات على أرض الواقع، لأننا طالما دفعنا ثمنا فادحا لوجود تلك الفجوة واتساعها، خاصة إذا كان الحاكم من عينة اللص بحكم محكمة النقض النهائي البات محمد حسني مبارك، الذي طالما استخف بالمختصين علميا.

وما زلنا نذكر لقاءه مع المثقفين عندما وقف الراحل الكريم الدكتور محمد السيد سعيد وقال لمبارك كلاما علميا، ثم حاول أن يقدم له ورقة مكتوبة تلخص رؤيته العلمية، فإذا بالمتغطرس الجاهل وبطريقته المستفزة يرد: "خلي لك ورقتك وأنت عارف هتحطها فين!".. والمعنى معروف لكل من له علاقة بالثقافة الشعبية!

عند العام 1970 لم يكن للسرطان من هذا النوع وجود يذكر في مصر، وكانت مقاومته التي بدأت قبيل منتصف الخمسينيات تتجاوز المواجهات الأمنية الصارمة والمحاكمة وتنفيذ الأحكام القضائية النهائية، بما فيها الإعدام؛ إلى الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأيضا الانطلاق في دور مصر في دوائره حتى صارت رائدا ونموذجا تتجه إليه أفئدة الطامحين للحرية والتحرر من الاستعمار القديم والجديد، وازدهر المسرح والسينما والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية.

ولذلك انتفى وجود التربة الصالحة لإنبات الفئات التي يمكن لذلك السرطان أن يستشري فيها، رغم المساندات الخارجية الداعمة للإخوان والسلفيين في نطاق الدائرة العربية!

ثم انقلب الحال عندما تم رفع شعار "العلم والإيمان"، وبدأ التفكير في مواجهة القوى المدنية القومية واليسارية، وأيضا الليبرالية، التي كانت لا تكف عن مجادلة النظام في أمر تحرير التراب الوطني وأمر الحريات وأمر العدالة الاجتماعية، وتمخض التفكير عن استدعاء ما درجت تسميته بعد ذلك بالإسلام!

انقلب الحال مع تولي أنور السادات رئاسة الدولة، وأراد أن يبني له شرعية جديدة قبل أن تحدث شرعية انتصار أكتوبر، فاختار الشرعية المستمدة من المرجعية الدينية، وكأنه يشير للشعب بطرف خفي بأن من سبقوه كانوا غير مؤمنين!

كان الفريق الذي أصبح معروفا بعد ذلك أنه من كرّس الفكرة للسادات، يتكون على الأرجح من عثمان أحمد عثمان ذي الميول الإخوانية القديمة، ومحمد توفيق عويضة الذي كان معه في المؤتمر الإسلامي وكان أمينا لمجلس الشؤون الإسلامية، وبعض نواب الصعيد، وأيضا محمد عثمان إسماعيل الذي كان محافظا لأسيوط، وبالجملة انضم إليهم أشرف مروان الذي كان لفترة طويلة همزة الوصل بين السادات وبين كمال أدهم، الذي كان يحلو له أن يهين ذكرى الرئيس عبد الناصر في حضور زوج ابنته أشرف مروان!

وكنت شاهد عيان على بداية استدعاء الجماعات الإسلامية في الجامعة، حيث أقيم في فبراير 1972 ما سمي "اللقاء الإسلامي الأول" برعاية أحمد كمال أبو المجد، ردا على لقاء ناصر الفكري الذي كان الطلاب الناصريون قد أبدعوه ابتداء من سبتمبر 1971.

وكان حدثا فريدا اضطرت الدولة أن تتعامل معه بإيجابية، وكان السادات يرسل من يمثله للاحتفال بذكرى رحيل جمال عبد الناصر إلى أن قرر السادات أن يلتقي الطلاب الناصريين بنفسه، وكان ذلك يوم الخميس 20 سبتمبر 1973، وكنت آنذاك مع الصديق الراحل المهندس محمد الملاح ممثلين للدراسات العليا في اتحاد طلاب الجامعة، وكان رئيس الاتحاد الصديق نبيل صفا، ولأحداث ذلك اللقاء تفاصيل سأحيكها في وقتها.

وبدأ تسليح حركة التأسلم السياسي في الجامعة بالأموال والجنازير ومطاوي قرن الغزال، وكان أمير الجماعة في جامعة عين شمس طالباً في كلية العلوم، هو مصطفى راجح الذي قرر هو وجماعته اقتحام لقاء ناصر الفكري لتفجيره من داخله بتحريض من ذلك الفريق الذي ذكرت بعض أسمائه.

وكانت خطة التفجير تعتمد أطروحة نظرية تذهب إلى أن ناصر كان كافرا وأن الناصرية بالتالي كفر وأن القومية العربية عصبية نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشهدوا بحديث معناه "اتركوها فإنها عصبية نتنة".

وما زلت أذكر تفاصيل الحوار الذي أدرته ومثلت فيه الجانب القومي الناصري، وكان الجو مشحونا متوترا، لأن الجنازير والمطاوي كانت جاهزة بالقرب من مقر الندوة، وبلغ التوتر مداه حتى أصيب الزميل والصديق المستشار الدكتور حمدي ياسين عكاشة- وكان آنذاك رئيسا لاتحاد طلاب كلية الحقوق- بالإغماء من هول الموقف!

ولم يفلحوا في شيء مما جاءوا لأجله، وكانت المفارقة المضحكة المدوية أن أميرهم حوصر فكريا وثقافيا ليبدأ الحضور- وكانوا بالمئات- في السخرية منه، فلم يملك إلا أن يسب الدين والملة.. دين وملة الحضور طبعا!

وتدريجيا، وبعد أن كانت الجامعة "تشغي" بالندوات والمؤتمرات حول تحرير الأرض والحريات والعدالة الاجتماعية، ومسرحها فيه أكثر من فرقة للتمثيل وأكثر من فريق للموسيقى، وللفن التشكيلي وللأدب شعرا وقصة، تقلص كل ذلك وبدأ اقتحام المدرجات للفصل بين الطلاب والطالبات وإيقاف المحاضرات عند الأذان.

وغير ذلك من المظاهر التي بدأت تتفاقم حتى وصل رئيس الجمهورية أنور السادات إلى أن يعلن في مواجهة بابا الإسكندرية "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، ثم وفي اجتماع علني للأعضاء المؤسسين للحزب الوطني بالإسكندرية قال عن نفسه "علمني ربي أنه لا يبدل القول لدي ولست بظلام للعبيد"!

وكان الناس أيامها يشاهدون مسلسلا تليفزيونا فيه شخص شرير اسمه "شرارة"، ولذلك ضجوا بالضحك عندما وجه السادات كلامه للحضور المنافق أمامه "أنتم شرارة العمل الوطني"!

إنها مأساة دامية فيها من الانحطاط أكثر بكثير مما فيها من صراع أساسه الفروسية، وكانت الهاوية التي سقط فيها الوطن كله وما زلنا نحاول الخروج منها، وكان السرطان الذي عفق خلايا الوطن، ولو أدرك السادات وصهره عثمان ومعه البقية أنهم سيرحلون وسيبقى الوطن لفكروا مليون مرة في أن الوطن شيء والنظام شيء آخر، وللحديث صلة.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يناير 2016

No comments:

Post a Comment