Thursday 7 January 2016

العدالة.. والأجهزة .. والنار



في حدود المساحة المتاحة أحاول التركيز في الكتابة عن مسائل ثلاث، الأولى عن العدالة فأتساءل عن إمكانية وصفها بالبطء أو بالسرعة، وهل هناك عدالة بطيئة وأخرى سريعة، ومن ثم يتساوى التقييم لتصبح العدالة الناجزة هي المقصودة، عندما نتحدث عن المدى الزمني اللازم لبقاء سيف الاتهام مسلطًا على رقاب الأنام..

وهنا أستحضر نموذج المهندس صلاح دياب الذي هال الجميع مشهدا ظهر فيه وهو مكبل بالقيود وحيدا بجوار سيارة الترحيلات، ثم أفرج عنه وصرح السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه لن يقبل بإهانة أو ترويع أحد من رجال الأعمال..

ومع ذلك بقي سيف الاتهام مسلطًا على عنق الرجل وابنه، بما في ذلك المنع من السفر ولم يقدما للمثول أمام قاضيهما الطبيعي ليفصل في شأنهما، لأن المنع من السفر عقوبة بحد ذاته..

أكتب عن ذلك المثال، لأن الأمر يمكن أن يتكرر مع آخرين ويجد المرء نفسه معلقًا دون حول منه ولا قوة، وعن نفسي فقد شربت من الكأس ذاتها، ولكن بطريقة أكثر قسوة عندما اتهمت في قضية الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1977، وكنت أحصل على استمرار الحبس مرات متوالية، عندما أتظلم أمام المحكمة.

وكانت آلية التنكيل أيام السادات هي أن حضرتك تتظلم في ظرف خمسة عشر يومًا، وينظر في تظلمك في ظرف الخمسة عشر يومًا التالية، وتحدد جلسة في الخمسة عشر التي بعدها، وتنزل إلى الجلسة في الخمسة عشر الرابعة، ويتم الاعتراض أو التصديق في الخمسة عشر الخامسة، وكانوا ينتظرون حتى اليوم الأخير من الخمسة عشر..وهكذا مرة بعد مرة ولشهور طويلة يبقى المرء حبيسًا في الليمان.

ثم جاء موعد نظر الموضوع وجلسات طويلة فيها مفارقات مضحكة ومبكية.. ثم أجلت القضية لأجل غير مسمى، وقد مضى على آخر جلسة حوالي ثلاثين سنة والقضية مؤجلة..

نعم العدالة هي العدالة لا بطء فيها ولا سرعة، لأنها يجب أن تكون ناجزة وفقط وبدرجة وجوب ألا يبقى مواطن بريئا حتى تثبت إدانته تحت سيف الاتهام بلا مسوغ.

المسألة الثانية هي ما قد أسميه مراحل سيناريو زعزعة الاستقرار في مصر من خلال بث كل ما من شأنه تكريس القلق والخوف والاختلاف في نفوس الناس، خاصة منهم الذين يتابعون ما يكتب وينشر.

فبعد حكاية "الانقلاب يترنح" بالتركيز على الجوانب الاقتصادية، وعلى وهم "التمرد" داخل قواتنا المسلحة الباسلة، ثم تكفل الأيام بتكذيب وتفنيد هذه الأوهام بدأت نغمة جديدة لفت نظري أن الذين ظهروا مقتنعين بها مروجين لها على "فيس بوك" هم من المثقفين الذين يتوقع منهم أن يمحصوا الأمور، وأن يناقشوها ليتبينوا مدى دقة المعلومات ومدى صدق التحليل ومنطقيته.

الكلام الدائر الآن في السيناريو الجديد هو كلام عن صراع بين المخابرات العامة والمخابرات الحربية، وكيف أنه متصل بصراع بين شخصيات كان بعضها طامحًا لرئاسة الجمهورية، ثم وبالطبع الحديث عن رئيس الجمهورية كمنحاز للجهاز الذي ترأسه لفترة.

ويمضي الكلام طويلا ليتخيل القارئ والمتابع أنه حقائق لكثرة ما فيه من معلومات ذكرتني بالصحفي الذي يمتلك صحيفة أسبوعية ويترأس تحريرها، وكان يفاجئنا بمانشيتات تقول إن الصحيفة كانت في قلب الاجتماع السري جدا المغلق في مقر الموساد ورئاسة الوزارة الإسرائيلية، ويبدأ في تقديم مادة معلوماتية غزيرة للإيهام بصحة اختراق حضرته للموساد شخصيًا..

غير أن المدقق في سيناريو الخلاف والصراع بين أجهزة الأمن في مصر، أي الأمن الوطني والمخابرات بشقيها الحربي والعام، يكتشف أنه سيناريو وهمي شبيه بما كانت تنشره الصحيفة إياها بقلم رئيس تحريرها..

ومع ذلك ورغم بؤس أصحاب هذه الترهات، إلا أن الأمر يقتضي تصديًا من نوع أو آخر لهذه الأمور.. وبالتالي سنسأل من يتصدى وكيف ومتى؟

وأظن أنني قدمت بعض الإجابة بهذه السطور.. إذ الكل الوطني ابتداءً من الأجهزة المعنية، ثم أصحاب الرأي والكتاب، بل والصحافة والإعلام بوجه عام مطالبون بدور في المهمة.

أما المسألة الثالثة التي أود التطرق إليها فهي ما اشتعل تحت لافتة "السنة.. والشيعة"!! وأبدأ بتساؤل على طريقة جدتي، عندما كانت تصيح قبل أن تسأل السؤال الاستنكاري: "يا مثبت العقل والدين يا رب.. ألم أقل خلوا بالكم من كيت وكيت.. أروح فين يا هوه"؟!!

وفعلاً يا مثبت العقل والدين يا رب، ألم يتم الإعلان مرة وعشرا ومليونا، وتمت الكتابة بكل لغة منذ فترة طويلة تعود على الأقل لمنتصف السبعينيات بعد نصر أكتوبر الذي لعب فيه التضامن العربي دورًا غير منكور عن أن الصراع المقبل سيكون دينيًا ومذهبيًا وطائفيًا في المنطقة، وأنهم سيشعلون النار بين قوس شيعي وحائط سني، وأن ذلك ضمن سعي للتفتيت والتجزؤ.. تفتيت المفتت.. وتجزؤ المجزأ..

وأن الأمر بدأ مبكرًا في مفارخ خبيثة ادعت أنها مراكز بحثية ومعاهد علمية أنتجت كلامًا عن صراع الثنائيات في المنطقة كالصراع بين الدين وبين العلم.. وبين التدين وبين العلمانية.. وكذلك بين الأصالة وبين المعاصرة ثم بين التقليد وبين الحداثة، ثم بين الخصوصية الثقافية وبين متطلبات العصر كالديموقراطية والحرية وغيرها وهلم جرا.

وبدأت الندوات والمؤتمرات والمناظرات تنعقد، وظهر ما يسمى بالإسلام المستنير الذي انضوى تحت لافتته من تبين أنهم بعد ذلك من الخلايا الحية للإخوان!!

وبعد صراع الثنائيات الفكرية وتمزيق العقل العربي والوجدان الإسلامي دخلنا في صراع الثنائيات المذهبية بين سنة وبين شيعة وداخل السنة بين سنة محافظة وأخرى جهادية، وثالثة مجددة ورابعة صوفية وهكذا..

أما داخل الشيعة فليس الأمر واحدًا كما يظنون، لأن الخلاف قديمًا يشتعل أواره بين حين وآخر بين زيدية واثني عشرية وكيسانية وباطنية وخلافه.

ثم دخلنا في مراحل أخرى أحالت كل التكوينات الحضارية الاجتماعية التي تشكلت عبر مئات إن لم يكن آلاف السنين مثل سوريا ومصر إلى عناصرها الأولية التي لا يمكن أن تحل محلها كما هو الأكسجين والأيدروجين لا يمكنهما منفصلين أن يحلا محل الماء!

رحم الله أيامًا كان فيها من يسعى للتقريب بين المذاهب.. وكان فيها من يناظر بسلاسة وسلاسة ويسر كما سجله كتاب المراجعات، وكان فيها الشيخ محمود شلتوت الذي دفع طلاب الأزهر ليدرسوا المذهب الجعفري وحسم مسألة التعبد به!

هل نترك النار لتأكل بعضها ونحن جميعًا وقودها.. أم نحمل الخراطيم والجرادل والجرار والرمل والتراب لإطفائها؟!


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يناير 2016

No comments:

Post a Comment