Thursday 28 January 2016

جهازنا المناعي.. الإصابة الأولى




ما كان لسرطان الإخوان والسلفيين، وكل من حمّلوا الأديان وجوهاً ليست لها أو منها، أن يسري في الجسد المصري ويستشري وتتصاعد شراسة خلاياه السرطانية لتلتهم مقدرات الوطن، إلا لأن الظروف تهيأت لذلك بضعف ثم انهيار جهاز المناعة المصري.

وبالطبع فلن أستطيع في هذه المساحة المخصصة للمقال أن أتقصى بالتفصيل المراحل التي مر بها جهاز المناعة حتى تعطل عن مهمته.

وأولا: فإنني أقصد بجهاز المناعة المصري عوامل القوة والتماسك والتوازن في التركيبة الحضارية والثقافية والاجتماعية لوطننا، وهي العوامل التي تتجلى آثارها في فترات النهوض التي عرفناها منذ تاريخنا القديم إلى الحديث والمعاصر.

وثانيا: فإنني أذهب إلى أن أول إصابة أصابت جهازنا المناعي- في نظري- كانت إخفاق محاولة الشيخ حسن العطار- الفقيه والرياضي والفلكي والأديب الذي تتلمذ عليه رفاعة رافع الطهطاوي- في إصلاح وتطوير الأزهر عند بداية القرن التاسع عشر، وهي المحاولة التي عرض العطار تفاصيلها على والي مصر محمد علي باشا الكبير، وما إن استكملا التصور النظري حتى هاج عليهما المشايخ التقليديون آنذاك، ليتراجع الوالي والعطار وينشأ تعليم آخر موازٍ، هو التعليم المدني، ممثل في المدارس التي أنشأها الباشا والبعثات التي أرسلها والخبراء الذين استقدمهم...

ومن هنا بدأت الازدواجية العميقة في الفكر والثقافة، بل والوجدان المصري، بين متعلمين نشأوا وتخرجوا، وهم يدرسون المتون والحواشي والحواشي على الحواشي، ويعمدون إلى الحفظ والاستظهار نظراً لتعقد المادة المدروسة، وأدى ذلك إلى تقديس النصوص البشرية، وبالتالي إلى إنزال أصحابها منازل تكاد تقترب من مكانة الكهنوت في أوروبا العصور الوسطى.

وكان الأصل في الحفظ والاستظهار هو إقبال المجتمع على الدفع بأبنائه وبعض بناته إلى الكتاتيب، ليكون أول ما يتلقونه هو حفظ القرآن الكريم، حيث لكل طفل لوحه ومحبرته وقلمه البوص، ويقرأ شيخ الكُتَّاب أو مساعده "العريف" النص المطلوب حفظه، ثم يكتبه المتلقون ويبدؤون في ترديده جماعيا مع التمايل أماما وخلفا، ويعيدون الأمر في منازلهم، وكثيرا ما ينبغ الصغار في إظهار ملكة الحفظ والتسميع ويتمون حفظ الكتاب كله في سن السابعة أو الثامنة، دون أن يفقهوا فيه أو عنه جملة واحدة...

وكان النبوغ يتجلى أكثر وأكثر عندما يمتحن الصبي أو الصبية ويعمد الممتحن إلى أن يتنقل به بين الأجزاء والأحزاب والأرباع والأعشار في قفزات سريعة كأن يطلب إليه أن يبدأ بأول البقرة، ثم يأمره أن يصدق بصدق الله العظيم ليقفز به إلى الربع الأخير من السورة أو إلى آية بداية من السور البالغ عددها 114 سورة.

ولذلك كان الحفظ في المراحل اللاحقة بالابتدائي الأزهري والثانوي آنذاك- ثم الشريعة أو أصول الدين أو اللغة العربية وهي الكليات الرئيسية في ذلك الزمان- هو الأساس وهو الكفيل بالنجاح، لأن العجز عن فهم نص متن أو حاشية كتبا بلغة صعبة تحمل مضامين أكثر صعوبة يؤدي إلى حفظه كما هو...

وقد كنت عندما أسأل أبي حامل العالمية مع تخصص التدريس من كلية الشريعة في الأربعينيات عن أمر ما ينصت قليلا، ثم يستدعي النص من ذاكرته فيردده همسا أو جهرا حتى يصل للنص أو المسألة المثارة، وكأنه يستدعي ألفية ابن مالك، وحاول تحفيظها لي، ويستدعي ابن عقيل والأشموني وغيرهما.

وعلى الجانب المقابل فإن التعليم المدني الذي أنشأه الباشا التزم بقواعد التعليم السارية في البلاد التي سبقت في المضمار، وكانت العلوم التي تدرس في التعليم العام أو المتخصص كالطب والهندسة وغيرهما خاضعة بدورها لمناهج البحث العلمي، بما تحويه من أدوات وطرائق للتفكير، على رأسها أن كل شيء نسبي إلى آخره.

نعم انقسم مجتمعنا حتى في الملبس بين الجانبين الأزهر بالجلباب أولا ثم الجبة والقفطان و"الككولا" والعمامة ذات الزر أو بغير زر وذات الشال الكبير الملفوف على طريقة الأفغاني أو الشال الأكثر حبكة وله شراشيب صغيرة تلتصق بالطربوش الأحمر! فيما الأفندية بالقميص والبنطال الطويل أو الشورت والحذاء والجوارب ثم الطربوش على الرأس!

هذه هي أول إصابة أصابت في نظري جهازنا المناعي، لأنها حرمت الأمة من بناء ثقافي مشترك في أسسه ومراميه، وإن تعددت مدارسه ومناهجه وظل الأمر قائما حتى جاءت محاولة العلاج الأولى في زمن جمال عبد الناصر، بما سمي تطوير الأزهر، ولم يكن هذا اجتهادا منه بل إن بصمات رواد مثل البهي الخولي والبهي قرقر وشلتوت والمدني وأبي العيون وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم وأدوارهم الآن كانت من وراء الأمر.

إضافة إلى أمر شديد الأهمية، وهو أن مصر كانت تحتاج أدوات نوعية متميزة في مواجهتها للاستعمار القديم في القارة الإفريقية تحديدا، حيث كان المستعمرون يدفعون بالمبشرين الذين كانوا جميعا من المتخصصين في الطب وفي الأحياء والإنثروبولوجي وغيرها ليقدموا خدماتهم للشعوب الإفريقية، وهذا يسهل كثيرا التبشير بالبروتستانتية أو الكاثوليكية، ويربط الأفارقة بالدول والمجتمعات الاستعمارية، لأن ثقافتها ومذهبها الديني ولغتها انتشرت من خلال الخدمات والمواعظ!

وكان محتما أن ينشأ جيل من علماء الدين المسلمين يذهبون بدورهم كأطباء ومهندسين ومتخصصين في أكثر من فرع تسندهم إذاعات مصرية موجهة بلهجات القبائل الإفريقية، مما خلق لمصر رصيدا ذهبيا لعن الله من بددوه...

لكن للأسف باءت تلك المحاولة بالإخفاق ولم تستطع أن تبدد تلك الازدواجية الحادثة حتى الآن، والتي تتفاقم آثارها السلبية المروعة في فترات الاضطراب أو الاضمحلال أو الانحطاط، مع توضيح لازم وهو أن الشعوب لا تنحط وإنما ظروفها هي التي تنحط؛ فتنعكس عليها وتستنفر عوامل التحلل والتفتيت.

إن ازدواجية التعليم ومن ثم الثقافة ومن ثم الوجدان هي أم كل التصادمات الواضحة الآن بين الثنائيات إياها كالدين والعلم، والأصالة والمعاصرة وهلم جرا مما كثر الحديث فيه، وسوف تبقى الإصابة الأولى التي ضربت جهازنا المناعي فاعلة فعلها لنراها حادة ومزمنة في أوقات كثيرة...

ولن يكتب لنا أن نستعيد مناعتنا طالما بقيت الإصابة الأولى، إذ لا مخرج إلا بتعليم مصري واحد، وعلى من يريد أن يتخصص في العلوم الدينية أن يذهب إلى كلية للدراسات العليا بعد أن يكون حصل على الدرجة الجامعية من الجامعات المدنية، وعليه أن يعد نفسه الإعداد الجيد بحفظ القرآن وفهمه أولا، وبعدها فليتلقى من المتون والحواشي ما يريد، لأنه عندئذ سيكون مسلحا بالعقل النقدي الواعي...

وللحديث صلة حول جهاز المناعة المصري.
                       
 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 28 يناير 2016

No comments:

Post a Comment