Thursday 21 January 2016

السرطان يتمكن



تداول الناس بعد مصرع الرئيس أنور السادات مثلا شعبيا وأسقطوه عليه فيما يتصل بتصالحه مع تيار التأسلم السياسي وعلى رأسه الإخوان المسلمون، إذ قالوا "لقد حضر العفريت ولم يفلح في أن يصرفه.. فقتله"...

ذلك أن الناس في عمق مصر يعتبرون تحضير العفاريت عملا سفليا غير مشروع، يدخل صاحبه في زمرة المشركين بالله وليس بعد الشرك ذنب، ولذلك تسوء خاتمة من يفعل ذلك لأن العفاريت الشيطانية تؤذيه ثم تقتله!...

وكم هو عميق ذلك الوجدان الشعبي ومتيقظ عندما قرن بين تلك الفئة وبين شياطين الجن!.. ولم ينصرف العفريت فعلا واستمر السرطان ينمو وينتشر في الجسد المصري بعد أن بدأت مقدماته، كما أسلفت في مقال الأسبوع الفائت، عند مطلع السبعينيات إثر نصائح فريق العمل الساداتي "عثمان، ومروان، وعويضة، وإسماعيل وأبو المجد" بالاعتماد على الجماعات الإسلامية لضرب حركة اليسار القومي والماركسي في الجامعات والنقابات المصرية، وضرب النويات الليبرالية التي بدأت تتجلى انعكاساتها في غير مجال كالمسرح والسينما.

وتسلم مبارك الحكم ليثبت أنه وبلا أدنى شك كان خطيئة السادات الكبرى، ورغم تداول الناس لعشرات النكت التي تتندر كلها على الذكاء المحدود لمبارك، وعلى جهله العصامي الذي أوصلته النكتة الشعبية للأمية الهجائية.

وأوصلته الرواية الشفهية التي سمعتها بأذني ومعي الزميل الأستاذ يحيي قلاش من الأستاذ الكبير الراحل أحمد بهاء الدين في مكتبه بالأهرام، عندما كان يسرد بعض تفاصيل أحد لقاءاته مع مبارك، ومنها تفصيل عن أنه وهو يحاول أن يلخص للرئيس ما يجري في جنوب لبنان وتحدث عن التكوينات الشيعية وإذا بالرئيس يظهر ثقافته العالية ويقاطعه قائلا: "تقصد الشيوعيين" ورد الأستاذ بهاء: "لا.. الشيعة"، فيرد الرئيس: "أنت هتحيرني ليه.. مش دول همه دول؟!" ويرد بهاء بهدوئه وصبره: "لا يافندم فيه فرق بين الشيعة والشيوعيين"!!

ناهيك عن التقدير العالي الذي كان يكنه مبارك لسمير رجب الذي ميزه عنده على بقية عموم المثقفين والصحفيين والمفكرين، أنه يكتب عشر مقالات في اليوم.. وأنه لا ينتظر إذنا من أحد ليشتبك مع خصوم مبارك الذي وصفه في هذا الجانب: "سمير راجل جدع أول ما بيشوف عركة بيقلع وينزل"...

وأذكر في ذلك اليوم الذي التقينا فيه الأستاذ بهاء أنه سألني بحكم أنني رد سجون: "يقصد إيه بيقلع وينزل".. ولم أفوت الفرصة لأسهب في معناها العملي في الأحياء الشعبية والحواري...

وعلى هذا نجد أنفسنا إزاء رئيس للجمهورية لا يعرف شيئا عن التكوينات الفكرية والثقافية، ومن ثم السياسية في المجتمع الذي يحكمه، ولأنه كان مهتما بالمال وربما الاقتصاد وكانت سياسات النهب الانفتاحي قد استقرت وترعرعت الفئة التي أثرت منها، وكان الصلح الساداتي ــ الإخواني الذي لم يلاحظ أحد إلا نادرا أنه تم وأصبح سمنا على عسل بالتزامن مع الصلح الساداتي ــ الإسرائيلي.

فقد ترك مبارك الحبل على الغارب للنمو الإخواني ولم يفلت الإخوان الفرصة فتغلغلوا في عدة قطاعات مالية واقتصادية، كالصرافة وتجارة العملة، وتجارة نصف الجملة في بعض المجالات، و"السوبر ماركتات" الاستهلاكية وسلاسل أخرى، وهلم جرا...

إضافة إلى أنهم عملوا على الحلول محل الدولة في أكثر من مجال من المجالات التي تمس احتياجات الناس مسا مباشرا، كالتعليم والصحة والمساعدات بالقروض الميسرة، وتعميم أفكار المعاملات المالية الإسلامية من صكوك ومضاربات وغيره!..

ووجدنا مصر في مواجهة حكم يدعي أنه يؤمن بالرأسمالية والاقتصاد الحر، فيما هو مستبد فاسد حتى نخاعه، ولم يكن لدى الاستبداد الفاسد بكل تركيبته ابتداء من القمة في القصر الرئاسي، حيث الأسرة الحاكمة والشماشرجية وصولا إلى أصغر موظف في جمعية زراعية، وما على غرارها في مختلف المصالح، أي مانع من القبول بالإخوان والسلفيين وكل ذوي المرجعية الدينية الذين هم بدورهم يكسبون ويراكمون المليارات وتأتيهم الإمدادات بغزارة من الذين يسعون لغسل ذممهم المالية أمام الله في بعض دول مجلس التعاون الخليجي.

وصار الإخوان والسلفيون منظري الأساس الفقهي الشرعي للكسب، حيث تسعة أعشار الرزق في التجارة، وأحل الله البيع وحرم الربا، ومال المسلم حرام مثل عرضه ودمه إلى آخر "النوتة" إياها..

وأصبح للاستبداد الرأسمالي اليميني الفاسد بل والفاجر جناحان، أحدهما الحزب الوطني والآخر الإخوان المسلمون والسلفيون.

لقد أمسكوا إذن بأحشاء مصر، ونفثوا في عقلها كل ترهاتهم لينشغل الناس بمصيرهم الأخروي وبمعايير الحلال والحرام، وكأن المصير الدنيوي اليومي ومعايير الصواب والخطأ والخضوع للقانون ومخالفته أمور تتنافى مع تقوى الله وحسن عبادته!

وبدأت الفضائيات التي تعلن عما يقوي الذكورة ويطيل وقت اللقاءات الحميمة تبث البرامج لعشرات من ذوي اللحى الكثيفة الطويلة المصبوغة بالحناء والشوارب الحليقة وغطاء الرأس الذي هو غترة أو شال أبيض بغير عقال..

وحل ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب والألباني محل كتاب الله وسنة رسوله واجتهادات الأئمة الثقاة الذين عاصرنا بعضهم، كمحمود شلتوت ومحمد محمد المدني وأبي العيون وصالح الجعفري وأبي زهرة والخفيف وغيرهم..

ووسط ذلك كله وفي ذروته كان الانصراف إلى التفسير الظاهري اللغوي لكتاب الله، والعمدة في ذلك هو الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي لم يتورع عن أن يعلن على الملأ أنه بمكانته الفقهية الدينية مستعد لأن يمسك بركاب البغلة التي يركبها الرئيس السادات! وليعلن أيضا في مجلس الشعب عقب زيارة السادات للقدس أن الرئيس لا يسأل عما يفعل! ولم يكن متبقيا إلا أن يقول "وهم يسألون".

ووصل الجناح الإخواني المسؤول عن الغطاء الديني الأخلاقي للجناح الآخر الرأسمالي الفاشي اليميني الفاسد المستبد في الحزب الوطني إلى البرلمان، وبدأت الأظافر والأنياب تظهر مع قليل من التقية من قبيل عدم المساس بشخص مبارك ولا موقعه، والقبول بالتوريث لابنه!

إن ثمة تمييزا يقيمه البعض بين المسار الإخواني وبين مسار الجماعات الإسلامية والتنظيمات الجهادية، سوءا من حيث المنظومة الفكرية أو التكوين التنظيمي أو التوجهات العملية والممارسات الميدانية، ولكن الأيام كشفت مدى تهافت وزيف هذا التمييز.

ولذلك أذهب إلى أن الإخوان اعتمدوا خطة محكمة تقوم على "المرحلية" في تحقيق الأهداف، وعلى توظيف "أدوات" مرحلية أيضا وهم واثقون أن كل ما تقوم به تلك الأدوات من جماعات إسلامية وتنظيمات جهادية يحمل الفكر نفسه.

إضافة إلى أمر شديد الأهمية وهو حفز الإخوان لتلك الاتجاهات لمزيد من التطرف والعنف في مصر والمنطقة والعالم، لكي يقول الجميع: "والله الإخوان أرحم وأعقل وأرشد وليت الإخوان يأتون ليكون الإسلام الحقيقي هو السائد"..

وهو الطعم الذي وضعه الإخوان في كل السنانير ليصطاد كثيرين، منهم أكبر دولة في العالم.. أمريكا التي لديها مخابراتها ومراكز البحث إياها.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21 يناير 2016

No comments:

Post a Comment