Tuesday 26 January 2016

تحية لروح حكيم منير صليب

المستشار حكيم منير صليب

عرفت القصة وهي لا تتجاوز سطرين بعد أن رقد في الأبدية، فازددت إكبارا له واحتراما وتوقيرا فوق ما كان عندي وعند مئات غيري.

تقول القصة: "إن أنور السادات أراد أن يسند إليه النظر في القضية التي يحاكم فيها المتهمون في الانتفاضة الشعبية الكبرى يومي 18 و19 يناير 1977 لأنه حسبما ظن السادات قبطي – يعني مسيحي – يتمكن الخوف من الصدام مع السلطة منه، ولذلك سيحكم فيها بما يعرف أنه إرادة الحاكم!"

وقد كان السادات مصيبا في جزئية واحدة من توقعه وهي جزئية أن الرجل مسيحي مصري، أي قبطي لأننا جميعا أقباط.. أما بقية التوقع فقد خاب خيبة المفتري "وقد خاب من افترى" حسب التقرير الإلهي.

إذ عندما وصل التوقع الساداتي بحذافيره للرجل فإنه أقسم بمقدساته وفي مقدماتها ضميره وشرفه أنه لن يحكم إلا بما هو القانون ولا شيء غير القانون.. ولذلك فما أن صدر الحكم بادر السادات بالاعتراض عليه وإحالته لدائرة أخرى، ثم كان أن لقى حتفه على يعد العفريت المتأسلم الذي استحضره ولم يتمكن من صرفه! وظلت القضية تتداول وأجلت إلى أجل غير مسمى لم يحن حتى الآن، رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة!

هو المصري حتى النخاع المستشار حكيم منير صليب رئيس محكمة أمن الدولة العليا وكان على يمينه المستشار علي عبد الحكيم عمارة وعلى يساره المستشار أحمد محمد بكار..

وكان الواقفون أمامهم للترافع نخبة من أعلام المحاماة منهم الأستاذ الدكتور عصمت سيف الدولة والأساتذة عادل أمين ومحمد ممتاز نصار وعصام الإسلامبولي وسامح عاشور وعبد الرءوف علي وصلاح عبد المجيد والدكتور يحيى الجمل ومحمد فهيم أمين وأحمد نبيل الهلالي وعبد الله الزغبي ومحمد أبو الفضل الجيزاوي ومحمد صبري مبدي وخليل عبد الكريم والدكتور جلال رجب وماهر محمد علي والدكتور عبد الحليم مندور.

أما من كانوا في القفص فقد زادوا على المائة وخمسة وسبعين متهما، كان كاتب هذه السطور يحمل رقم 162 وكان أحمد فؤاد نجم يحمل رقم 158.

وقبل أن أسجل في هذه السطور ما أنقله بنصه من متن الحكم الذي أصدرته المحكمة برئاسة الراحل الكبير الموقر حكيم منير صليب، أود الإشارة إلى أنني كثيرا ما أعود لقراءة بعض أدبيات القضاء المصري بما فيه النيابة، وعلى رأسها نص قرار نيابة مصر الذي كتبه المستشار محمد بك نور عام 1924 مبرئا فيه ساحة الأستاذ الدكتور العميد طه حسين من التهم التي كالها له أفراد ومؤسسات واتهموه بالزندقة والكفر إثر نشره كتابه عن الشعر الجاهلي، وكيف أن رئيس النيابة محمد نور ناقش كل ما ورد في الكتاب وقدم آراء مخالفة للأستاذ العميد حتى أنك تخال أنه ليس رئيسا للنيابة العامة بل رئيس لقسم اللغة العربية والحضارة في أعرق الجامعات.

أقدم الراحل الكريم حكيم صليب على التصدي بالبحث والدراسة لأحداث يومي 18 و19 يناير قبل أن تناقش المحكمة أدلة الثبوت.. فإلى النص: "ولكن المحكمة وهي تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية في ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحي الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصري فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا في الأسعار مع ثبات مقدار الدخول، ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجا فهم مرهقون مكدودون في تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص في الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن وهو مطلب أساسي تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم في بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة في ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التي سوف تنهي أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم، وبينما أولاد هذا الشعب غارقون في بحار الأمل التي تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التي تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأي انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأي تناقص رهيب في الآمال وقد بثت في قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذي أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذ بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا وإذ بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذ بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التي وأدت الرجاء وحطمت الآمال، وحاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام ولكن أنى لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم في مأمن ومنجاة وقد التهبت انفعالات هاته الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزي بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان إن اشتعلت الأحداث وسادت الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجوال ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ، وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام، والذي لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب".

لقد اقتبست جزءا يسيرا مما نطق به المستشار حكيم صليب الذي سيبقى حيا طيب الذكر في وجدان الأمة.. والزبد يذهب جفاء وكم من زبد طغا على وجه حياتنا السياسية والثقافية ثم سرعان ما تلاشى.


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 يناير 2016

No comments:

Post a Comment