Thursday 17 November 2016

لا عزاء للمحترفين!!




ميادين العمل الطوعي الفعلي هي المجال الأمثل لتجلية معدن الشباب والرجال والبنات والسيدات في مصر، ولن يتم التوصل لقيادات وكوادر محترمة جادة مبدعة إلا عبر هذه الميادين، بعدما أثبتت التجارب منذ الطليعة الوفدية والقمصان الخضر - مصر الفتاة - والأخرى الزرقاء - الوفد - والثالثة الكاكي - الإخوان - ومن بعدهم معظم التكوينات المشابهة أن المنهج التعبوي والاختيار عبر المهارات اللفظية والحركات التنظيرية لم يثمر عملاً سياسيًا ووطنيًا له أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية واضحة ودافعة للأمام!.. وإذا كان ثمة استثناء فإن شريحة من منظمة الشباب ساهمت في مشروعات ردم المستنقعات، والتشجير ومقاومة الآفات والتصحر وفي محو الأمية، هي من استمرت معطاءة في العمل الوطني، وأسست لتيار سياسي واسع سرت فيه بعد ذلك الأمراض السارية المتوطنة في المجال السياسي المصري، وعلى رأسها مرض وثوب الطفيليين عديمي الموهبة العاطلين عن أية مقدرة للعمل الجاد المنتج على مواقع القيادة بحناجر جبارة ووجوه كالحة تصطنع الابتسام عمال على بطال!

لذلك كله تفاءلت خيرًا من زيارة وفد شباب الأحزاب لرئاسة الجمهورية لتقديم رؤاهم حول العمل التطوعي، ابتداءً من محو الأمية، وما زلت متوجسًا من فكرة مجلس للشباب مرتبط بالمؤتمر الذي انعقد في شرم الشيخ، ولن يزول التوجس إلا بعد أن نرى مهام عملية واضحة في ميادين العطاء الوطني الطوعي!

ولقد كتبت منذ مدة بعيدة عن أن مصر عادت لمواجهة تحديات كانت قد تغلبت عليها مع مراحل تكوينها كوطن.. هي التحديات الطبيعية.. تحدي النهر والمياه العذبة بوجه عام.. وتحدي هجوم البحر من الشمال والصحراء من الغرب والشرق، أي تحدي التصحر.. والتبحر إذا جاز الاشتقاق!

لقد استطاع أجداد أجدادنا ترويض النهر وصد البحر عبر استصلاح مساحات هائلة في شمال الدلتا، حيث الأراضي الرخوة والملاحات وغيرها، وفي الوقت نفسه كانوا حراسًا أمناء أقوياء للوادي والدلتا من الهجوم الذي كان يستهدفهما، باعتبار أن مصر واحة كبيرة في محيط صحراوي هائل!.. واستطاعت أجيال أن تتحكم في النهر، وكان مقياس قوة الحكم وجديته هو السيطرة على النيل بالسدود والأهوسة والقناطر، ليتم التوزيع العادل للمياه!

ومع عودة تحدي الطبيعة وبضراوة، تكالبت تحديات أخرى لا تقل شراسة أهمها في نظري هو الأمراض النفسية الاجتماعية مع الأمراض الجسدية، التي تفشت في التكوين الاجتماعي المصري.. ورصد علماء علم النفس الاجتماعي وغيرهم من المتخصصين هذه الأمراض الاجتماعية التي صارت تنتقل مع حامليها إلى المجتمعات الجديدة، التي طمحنا لأن تكون قاطرات تشد الأمة إلى الأمام فإذا بها "سبنسات" متهالكة مهدودة الحيل تتكاثف فيها تلك الأمراض حتى صارت هي نفسها منبعًا للجريمة المعاصرة!

ثم حدث ولا حرج عن تفشي عوامل التفتيت التي سعى خصوم مصر إلى النبش عنها وتنشيطها وتكريسها وتعظيمها.. تفتيت ديني وطائفي ومذهبي.. وتفتيت جهوي وتفتيت فئوي.. وهلم جرا حتى ارتد هذا المركب الحضاري العظيم، أي مصر، إلى عناصر تكوينه الأولى منفصلة مثلما نحول الماء إلى أكسجين وأيدروجين، فيفقد وجوده كماء يروى العطاشى من زرع وضرع وإنسان!

لقد جددت الرؤية الشبابية التي حملها الوفد الشبابي لرئاسة الجمهورية الأمل في انطلاق الطاقات المصرية المختزنة في عقول ونفوس وأجساد عشرات الملايين، وخاصة من شريحة الشباب من عمر 18 سنة إلى 29 سنة، ويبلغ عددها حوالي 22 مليون نسمة من الشعب المصري!، ولعل أول المهام المرجوة هو أن يفرز الشباب قياداتهم من داخلهم لتنتهي وإلى الأبد وصاية محترفي السياسة، الذين يظنون أنه لن تأتي لحظة لينكشف زيفهم، أو أن يذهبوا هم بأنفسهم للتقاعد مستمتعين بما جنوه زورًا وبهتانًا من مغانم مادية ومعنوية!

إن الطريق لحياة سياسية فاعلة وسليمة لن يستقيم عبر البنية الحزبية القائمة الآن، وبدون الدخول في التفاصيل فقد ظننا أن هناك أحزابًا تقودها شخصيات مرموقة مكانة وعلمًا قد ولدت لتبلور الليبرالية المصرية، وأخرى قد ائتلفت لتعوض فشل اليسار المصري، وثالثة قد أنشئت مدعية الاستقلال عن أي تيار سياسي وهلم جرا، ومع الأيام تبين أن الأمراض السارية المتوطنة في الحركة السياسية المصرية وأعراضها هي الانقسام والاقتتال.. والتنظير والإنجاز الشفهي الزائف.. والاغتراب عن الواقع وغيرها، قد انتقلت إلى هذه التكوينات كي لا نفاجأ بأن "صفر زائد صفر زائد صفر يساوي صفر"!!

على ذلك يكون البديل هو انخراط تكوينات الشباب في العمل الميداني المباشر للاستجابة لتحديات الطبيعة، أي "التصحر والتبحر".. هجوم الصحراء وعدوان البحر.. والاستجابة لتحديات الأمراض الاجتماعية ومواجهة الظواهر السلبية، ثم الاستجابة لتحديات البناء في طول مصر وعرضها! ومن ساحات وميادين العمل سيتم فرز القيادات والكوادر المؤهلة للقيادة، حيث الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح باعتباره الأقوى!

ولأن الأمر يتصل بوطننا فربما يكون من حق من هم خارج الشريحة الشبابية، أي العواجيز مثلي، أن يتمنوا وجود مجالات للعمل الوطني ينخرطون فيها لأداء دورهم، إضافة لدورنا المرتبط بتخصصاتنا المختلفة!.. ذلك أن مهام كمحو الأمية والتوعية الاجتماعية والسعي لإحياء ثقافي مصري شامل يواجه موجات المد الإرهابي ومعه المد القاصر عن فهم صحيح للدين، هي مهام يمكن أن يمارسها الإنسان دون شرط من عمر أو قوة بدنية!

كل التحية والدعم لمبادرات شباب مصر وسعيهم للعمل الميداني، لأن ساعة العمل إذا دقت فلن تستطيع كل قوى الإرهاب والتخلف أن تعيد عقاربها إلى الوراء.
                               

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17 نوفمبر 2016.

No comments:

Post a Comment