Thursday 5 October 2017

محترفو الإجهاض




في البرامج التثقيفية التي تدرسها الكوادر السياسية في التنظيمات اليسارية والقومية والأخرى الليبرالية، أنه من غير المقبول- تنظيميا ولا سياسيا- انضمام تكوينات سياسية متماسكة لحزب أو تنظيم قائم، وإذا التقت الإرادات السياسية واتفقت الرؤى كان السبيل هو حل تلك التكوينات، ودخول أفرادها فرادى وهذا ما حدث في الخمسينيات والستينيات، عندما كان هناك تنظيم واحد وأراد الشيوعيون المصريون الانضمام إليه، فتم حل تكويناتهم وانضم الأفراد بصفاتهم الفردية.. وأعتقد أن هذا حدث أيضا مع الإخوان في بعض الحالات، إذ كان يتم قبول الكادر الإخواني الذي انفصل عن تنظيم الجماعة ولم يعد له ولاء، وهناك نماذج لأسماء كبيرة في هذا المضمار.. والعلة التي كانت ومازالت من وراء هذه القاعدة هي أن "البللورة" الأكثر تماسكا وصلابة إذا وضعت في سائل فإنها تستطيع أن تستجمع الذرات من حولها، أي أن من يمتلك وجودا تنظيميا أقوى وأكثر خبرة يستطيع أن يستقطب بقية العناصر في أي عملية اندماج سياسي!

وفي تلك البرامج أيضا فإن الواقع الصحيح لحياة سياسية سليمة يفرض وجود قواعد عامة تحكم الصراع السياسي، وفي مقدمتها أن يكون الصراع سلميا وأسلحته هي الفكرة والكلمة والعمل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المفتوح، وليس صراعا اقتتاليا مسلحا، يتسلح بالبنادق والرشاشات والقنابل والمسدسات، وما إلى ذلك نزولا للسلاح الأبيض، ولا يمكن أن يبقى الصراع سلميا ما لم تكن الأسس العقيدية "الأيديولوجية" للأطراف المختلفة تنبذ العنف ولا تحرض عليه وتدين حمل السلاح واستخدامه، وعندئذ يكون السؤال الجوهري والمنطقي: ماذا يتعين أن يحدث في مواجهة وجود تنظيم حزبي حديدي عقائدي مسلح تحض أيديولوجيته على العنف ولا تنبذ حمل السلاح بل وتؤكد حتمية وجود تنظيم خاص للعمليات المسلحة العنيفة ضد الخصوم؟!

أعتقد أن الإجابة الصحيحة السليمة تعتمد أولا على تشخيص الظروف التي أدت إلى وجود مثل هذا الخلل، والتي أدت إلى استمراره والتي أدت إلى أن يتمكن هذا التنظيم من تصدر الحياة والسيطرة على مقاليد الحكم، فإذا اكتشفنا أن هناك فراغا هائلا وإهمالا مهولا، وضعفا مرذولا من مختلف الأطراف المعنية أصلا بالحيلولة دون حدوث ذلك، فإننا نقول وبضمير مرتاح إلى حتمية وجود نقيض منظم تنظيما محكما ومسلحا وتحكمه عقيدة أشد رسوخا من عقيدة ذلك الذي نتحدث عنه!

ببساطة كان من المتعين أن تتم مواجهة الإخوان كتنظيم حديدي عقائدي مسلح، بالجيش المصري كتنظيم محكم التكوين مسلح تحكمه العقيدة الوطنية العميقة الراسخة التي لا مجال للمقارنة بينها وبين عقيدة الإخوان!.. كان الجيش المصري وحده هو القادر على هذا الفعل، في ظل الهلهلة السياسية التي تعيش فيها الأحزاب والتكوينات الأخرى والتي لم تملك أية مقدرة على الحيلولة دون وثوب العصابات الإخوانية المسلحة إلى رئاسة مصر وحكمها، بعد أن تغلغلت في شتى مناحي الحياة على مرأى ومسمع منا جميعا ولم نملك القدرة السياسية على منعهم أو على الأقل تقليل خطرهم!

أكتب هذا الكلام عن التنظيمات وعن "الديالوج" الذي تم في حياتنا السياسية وكيف أن الأمر ببساطة شديدة معادلة توازن قوى وردع، لأن الأصوات التي بدأت تعلو في نشازها المعلوم عنها طوال عقود، بدأت تتجاوز كل حدود آداب العمل السياسي العام، وكل قواعد المنطق وأسس الفهم الصحيح للمسار التاريخي الراهن، لتنهال الأوصاف الرذيلة والشتائم والاتهامات السخيفة الخالية من أي ذوق على الحكم والرئيس!

إنها أصوات حملت على عاتقها- طوال العقود الثلاثة الفائتة- مهمة إجهاض كل محاولات الإصلاح وكل الظروف الممهدة للإصلاح أو حتى الثورة.. ولو كان المجال يتسع في هذه المساحة لقدمت رصدا واقعيا متسلسلا زمنيا لما أجهضه أصحاب دعاوى الإنقاذ والتغيير، والمضحك المأساوي.. أنهم أقرب إلى الطبيب الذي يضحي بحياة الأم وحياة الجنين من أجل نجاح العملية!
                       

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 أكتوبر 2017.

No comments:

Post a Comment