Wednesday 18 January 2017

عن عبد الناصر.. سؤال.. وإجابة




أطالع بين حين وآخر كتابات يتساءل أصحابها سؤال دهشة واستنكار: متي يموت جمال عبد الناصر؟ أو لماذا لم يمت جمال عبد الناصر؟، ثم يتطوعون بالإجابة التي تتفاوت مضامينها بينهم، فمنهم من يعتبر أن سياسات عبد الناصر ومواقفه بل ثورة يوليو من أساسها هي من وراء ما تعانيه مصر على كافة المستويات، ومنهم من يذهب إلى أن شرط التقدم هو مفارقة الماضي وإعدامه، سواء في الفكر أو السياسة، ومنهم من يرى أن من أعراض الأمراض النفسية الاجتماعية التي تصيب الجموع الحنين للماضي والاستغراق في تقديسه، واستمرار عقدة عبادة البطريرك أو الأب.. ولذلك يجمعون على اختلاف إجاباتهم على الاندهاش والاستنكار مما يرونه ابتداءً من رفع صور جمال عبد الناصر في المظاهرات والمسيرات والهتاف باسمه وبمواقفه وأفكاره، وليس انتهاءً لسيل الكتابات التي تسعى لتمجيد شخصه وأفكاره ومنهجه ومواقفه، وتزداد دهشتهم عندما يجدون أن الأمر لا يقتصر على مصر وإنما يتجاوزها إلى مناطق أخرى في الإقليم، وخاصة لبنان وفلسطين المحتلة، وخارج الإقليم كبعض دول أمريكا اللاتينية التي لا يتحرج قادتها وساستها من إعلان ناصريتهم!

وإذا فصلنا بين السؤال وبين من فكروا فيه وانشغلوا به واجتهدوا لإماتة الرجل والإجهاز على سيرته بكل الوسائل وفكرنا قليلًا لوجدنا السؤال مشروعًا ويفرض نفسه بكل قوة على العقل السياسي، سواء في مصر أو خارجها، ويمكن إعادة صياغته بحيث يصبح لماذا تبقى الأمم والشعوب متمسكة برموز معينة وأفكار بذاتها تنتمي إلى حقب ماضية؟ وما الفرق بين الحنين المرضي وبين الحنين الصحي الإيجابي، وهل يشترط لإنجاز أهداف الحاضر والمستقبل حتمية إعدام الماضي؟!

الإجابة عندي ترتبط بعدة أمور، أولها مدى استمرار أو انقطاع أو تغير الظروف التي يواجهها الوطن على صعيدين أساسيين، أحدهما أمنه الذي يتضمن استقلال ترابه الوطني وحمايته برًا وبحرًا وجوًا وتأمين الشعب في حياته، والآخر إقامة العدل بين جنباته، فإذا كان الوطن يواجه الظروف نفسها على صعيدي الأمن والعدل فإن المجتمع يبقى متمسكًا بالرمز وبالفكر والممارسات التي ثبت له أنها أنجزت في المضمارين إنجازات ملموسة جنى الناس ثمارها. أما ثاني الأمور التي ترتبط بها الإجابة فهو متصل بما يسمى بمفهوم المخالفة الذي هو في حالتنا هذه أنه طالما أعداء الوطن، أي من يهددون أمنه ويقوضون عدالته سواء في الداخل أو من الخارج، يعلنون عداءهم واستمرار تشويههم لرمز معين ولفكر وممارسات ارتبطا به فإن المجتمع في عمومه، أي فئاته العريضة، يتجه آليًا لمزيد من التمسك لدرجة العناد بكل ما يستهدفه هجوم أولئك الأعداء!!

إن المجتمعات الحية تنتبه دومًا إلى تحديد من هو عدوها، وعلى ضوء هذا التحديد ترتب أولوياتها وتتجه إلى التماسك الصلب من حول رموز أمنها الوطني وعدلها الاجتماعي وكرامتها وعزتها القومية.

من هنا يبقى عبد الناصر الرمز والفكر حيًا مستعصيًا على رغبة البعض في التخلص منه ودفن أفكاره وسياساته، لأنه في الوجدان المجتمعي الجمعي يمثل المحاولة التي لم يكتب لها الاستمرار من جانب، وغير متكررة في مصر الحديثة والمعاصرة لا قبله ولا بعده.. أي منذ محمد علي عند بدايات القرن 19. وحتى مطلع الخمسينيات مع قانوني تحديد ساعات العمل والحد الأدنى للأجور، وبعدهما الإصلاح الزراعي وبقية التفاصيل التي أكدت الانحياز للقطاعات العريضة من المجتمع، وهذا في رأيي ما ميز سيرة ناصر وثورة 1952 لأنه قد تكون ثمة سمات مشتركة في الجانب الأمني بين التجربتين.

إن مصر لا تزال تعيش كثرة من التهديدات لأمنها الوطني ودورها الإقليمي، وهي تهديدات وإن تغيرت بعض سماتها، إذ أصبح الإرهاب والفوضى وتدمير الجيش الوطني وتفكيك المجتمع وتماسكه التاريخي في رأس القائمة، بعد أن كان التهديد الصهيوني على رأسها، حيث يبدو الآن قد تراجع قليلًا أو بالأصح تأجل.. ولا تزال مصر تسعى لاستئناف مسيرة العدل في ربوعها بتوزيع عادل للثروة الوطنية وللأعباء الاقتصادية، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وتحقيق الرفاهية لأبنائها بضمان حقوقهم الأساسية في المواطنة والعمل، وتوفير الاحتياجات الضرورية من تعليم وصحة ومسكن وغيرها، وصولًا للترفيه الذي أضحى حقًا لا تستقيم بدونه الحياة السليمة، وكلما شعرت القطاعات الواسعة من المجتمع بافتقاد وطنها للأمن وافتقادها للعدل استدعت مكنونات وجدانها الوطني، خاصة أقرب حلقة تحقق فيها شيئًا من هذا ومن ذاك، وتبرز الرمز الوطني الذي هو جمال عبدالناصر ليس من باب الحنين المرضي وتمنيات الماضي، ولكن من باب الإعلان عن أن تحقيق الأمن والعدل ممكن، وأن الدليل على ذلك هو هذا الرجل.

عندئذ يمكن أن نقول للذين تساءلوا مندهشين مستنكرين، لو أردتم أن تحققوا ما تريدون فلابد من تحقيق الأمن والعدل بمعدلات أعلى ومساحات أوسع.. غير أنني أشك في قدرتهم على ذلك، لأن معظمهم، إن لم يكن كلهم، لا يدركون معنى الأمن الوطني الشامل، ولا يضعون دور مصر في إقليمها وفي العالم نصب أعينهم، وغياب العدل هو من صميم وجودهم لأنه بالعدل لن يجمعوا ثروات إضافية فوق ما جمعوه بالظلم والقهر الاجتماعي.
                               

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 يناير 2017.

No comments:

Post a Comment