Wednesday 15 March 2017

من علم الحديث لفن التهريب




في مقال الأسبوع الفائت كتبت عن الخيط بين ابن تيمية وحسن البنا، حيث استشهد حسن البنا بحديث منسوب للرسول، صلى الله عليه وسلم، ثم حمل الحديث ما ليس فيه إذ لجأ للقياس على ما جاء في الحديث عن أن لمن قتل بيد أهل الكتاب أجر شهيدين، وبالتالي فإن هذا يعني عند حسن البنا في تعقيبه الذي نشره في رسالة الجهاد بند رقم 15 وكتبته في مقال الأسبوع الفائت: "وفي هذا الحديث إشارة إلى وجوب قتال أهل الكتاب، وأن الله يضاعف أجر من قاتلهم، فليس القتال للمشركين فقط، ولكنه لكل من لم يسلم"!.. وكانت المفاجأة الفاجعة التي لم أفطن إليها فيما كنت أقرأ تراث البنا وأناقشه، هي أن الحديث النبوي الذي استند إليه وحمله بما ليس فيه حديث ضعيف، بل ومنكر عند علماء الحديث!!.. يعني أن المرحوم لم يكتفِ باستنطاق الحديث بما ليس فيه بل استند إلى ضعيف.. ومنكر!!

ففي رسالة على بريدي الإلكتروني.. من السيد الأستاذ ممدوح أحمد جاءتني يوم 9 مارس20177 جاء ما يلي، بعد التحية والإشادة المشكورة منه: "أرسل لسيادتكم Link يبين كذب الحديث الذي استشهد به حسن البنا، ولم يكلف نفسه عناء البحث عن صحته، وأصدر حكمًا وفتوى لتابعيه.. وإذا كان هذا هو كبيرهم، فما بالك بمن دونه.. هم إخوان كاذبون وشكرًا لسعة الصدر وقراءة الرسالة"!

اللينك هو:

وخلاصة ما جاء فيما نشر بموقع ملتقى أهل الحديث: "وقال أبو حاتم وابن عدي منكر الحديث، حديثه ليس بالقائم، وكذا قال الحاكم أبو أحمد".. و"الحديث ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة والبخاري والألباني"!

أهمية الكلام السابق لا تتصل بمعركة تخاض في مواجهة تنظيم الإخوان الإرهابي فقط، وإنما بصميم الصراع الحضاري والثقافي والمرجعي، الذي تخوضه الأمة وهي تسعى للاستنارة والتقدم ضد القوى والاتجاهات، التي تزعم لنفسها القوامة على دين الأمة، إخوانًا كانوا أو سلفيين أو غيرهم.. والواضح أن المطلوب هو مزيد من القراءة المتأنية العميقة وليس التصيد، فربما تقع عين شاب أو شابة ممن يوشكون الوقوع في حبائل أولئك المتاجرين فيبدأ في إعمال عقله، ويبحث هو بنفسه عن صحيح الدين.

وأنتقل إلى ما وعدت القارئ بالكتابة فيه، وهو متصل بالسؤال الذي طرحه كثيرون، مستنكرين تمكن أحد المسجونين من الإخوان، هو جهاد الحداد، من إرسال مقال إلى صحيفة أمريكية كبيرة يتحدث فيه عن كيف أنه إخواني وليس إرهابيًا في محاولة من التنظيم للحشد ضد توجهات إدارة ترامب.

وما سأكتبه هنا هو وقائع عشتها بنفسي وشاركت في بعضها فيما كنت سجينًا على ذمة القضية رقم 100 حصر أمن دولة عليا، المعروفة بأحداث يناير 1977.. وهي وقائع مضى عليها الآن حوالي أربعين سنة.. وربما تكون الأوضاع قد تغيرت للأفضل أو للأسوأ.. الله أعلم.

الأمر يتصل بالمخالفات داخل السجون، سواء قام بها المسؤولون عن السجن بمخالفتهم للوائح، أو تواطؤ بعضهم في المساعدة على مخالفة المساجين للقواعد واللوائح.. أو يتصل بالمسجونين أنفسهم وحيالهم في خرق الضوابط، ولأن القائمة التي عشت تفاصيلها طويلة فسأكتفي بذكر بعض الأمثلة.

نبدأ بالبوابات، حيث ينتظر أهل المساجين الدخول للزيارة، وأذكر أنني نوديت من الشاويش: فلان الفلاني زيارة.. ونزلت من الدور الثاني في سجن الاستئناف أنتظر دخول الأهل، وطال انتظاري، حيث دخلت زوجتي الطبيبة - عليها رحمة الله - تحمل طفلتنا، التي ولدت بعد حبسي بأقل من أسبوع، وكانت الأم مشدودة باكية وعرفت أنها على الباب منذ الصباح الباكر، ولم تدخل إلا في الثالثة بعد الظهر لأنها لم تعرف أن كل تصريح زيارة لابد أن يرفق به ربع جنيه ورقي.. أيام ما كان الربع.. ربع! وحكيت لضابط العنبر الملازم أول ممدوح الجوهري، الذي عرفت فيما بعد سنين طويلة أنه وصل لرتبة اللواء وانتقل لرحمة الله، فإذا به يضمرها في ضميره الحي، وبعدها بأيام قليلة ناداني وهو محتجز للصول حجاج والأنباشي جمال شبه عاريين وقد فتشهما أثناء نوبتجيته فوجد أكثر من مائتي ربع جنيه ورقية في ملابسهما.. حصيلة يوم واحد، لأنهما كانا من يتسلمان التصاريح!

وعندما أضربنا عن الطعام وأخذونا للتأديب في ليمان أبو زعبل صدر بيان عن الإضراب، وكانت صياغته محل اختلاف شديد بيني وبين الشيوعيين، وكان من صاغه هو صلاح عيسى الذي بدأه بعنوان: "بيان من أسرى حملة يناير 1977 المضربين عن الطعام في تأديب ليمان أبو زعبل.. ثم نحن الشيوعيين المصريين.. إلى آخره".

وطلب إليّ أن أوقع أنا والناصريون، ولكني رفضت واقترحت أن يبدأ بـ"نحن أبناء الحركة الوطنية المصرية.."، ورفض صلاح عيسى وكان الوسيط المتحرك هو المحامي فاروق ثابت ومعه أحمد فؤاد نجم رحمهما الله، وبعدها بشهرين جاءتنا مجلة "اليسار العربي"، التي كانت تصدر في باريس، وفيها نص البيان الذي تم تهريبه من ليمان أبو زعبل بواسطة أحد السجانين، ليصل إلى باريس بعد ذلك! وكانت المفاجأة أنه نُشر بالصيغة التي رفضتها، ووجدت اسمي وأسماء الناصريين من الموقعين عليه فيما نحن لسنا شيوعيين!

كان التهريب إلى السجن ومنه يعتمد في كثير من الأحيان على علاقة تنشأ بين السياسيين والجنائيين، وأيضًا مع بعض السجانين.. ففي الفسحة يتم معرفة من عنده جلسة غدًا ويتسلم الورقة المطلوب إخراجها، ويتم تحفيضها - أي وضعها كحفاضة الطفل بين الفخذين، أو إذا استلزم الأمر في فتحة الشرج - أو يأخذ الأفندي غفر الليل، خاصة إذا كان ما سيدفع خارج السجن، أي من جهة تمثل المسجون إلى أسرة السجان مبلغًا مغريًا قد يساوي مرتبه لمدة سنة مثلًا!! ولن يلتفت أحد إلى ورقة بحجم تلك التي تكون داخل علبة السجائر ومكتوب عليها بخط رفيع جدًا.. يعني ورقة بمساحة عشرة في خمسة سنتيمتر تحمل مقالًا كاملًا!!

وهناك المسجون القادم من جلسة ويعمل "سفينة"، ويحمل "الرفاصات" في أمعائه الغليظة.. و"الرفاص"، هو أنبوب معدني مثل أنبوب السيجار توضع فيه الممنوعات من مخدرات وغيرها ويدسها السفينة من مؤخرته إلى أمعائه، وهناك سفن متنوعة الحمولة!! وفي هذا قصة واقعية عشتها مع زملائي في زنزانة 27 بسجن الاستئناف، وكان بطلها مسجون سفينة اسمه سمير، وهو يحكي ويشرح حتى وصل إلى التشخيص الطبي، الذي يؤكد أن السفينة لا يمكن أن يكون شاذًا!!

كثير من الوقائع كان منها التهريب اليومي لتموين السجن من البقوليات والأرز عبر أنابيب المجاري، وكنت أشاهد المشهد بنفسي فيما أنا مقرفص في الشباك، وربما يكون الحداد كتب مقاله على ورقتي علبتي سجائر وخرجت مع مسجون آخر أو فرد أمن.. أو يكون أحدهم خارج السجن كتب المقال ونسبه للحداد، حتى تصير هذه الدوشة ويبدأ الشك في كل المنظومة.. وربما يكون للحديث بقية.
                                 

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 مارس 2017.

No comments:

Post a Comment