Wednesday 16 October 2019

عودة لمسألة المعارضة من الخارج





ما أتلقاه من تعليقات إيجابية على ما أكتبه من مشاهد وذكريات ذاتية واجتماعية يفوق ما يأتي تعليقًا على الكتابات ذات الطابع السياسي، ربما لأن الأخيرة ترتب بطبيعتها خلافات تصل أحيانًا لصدامات لا تخلو من حدة.

أما المشاهد والذكريات الذاتية والاجتماعية فهي كثيرًا ما تثير شجونًا عند بعض من يقرؤونها، إذ تذكرهم بما عاشوه أو سمعوا عنه، وكثيرا ما تتضمن قراءة سهلة لجذور التكوين الوجداني لشريحة من المصريين تصادف أن عاشت ظروفًا مشابهة، وفيها مادة تصلح مصدرًا "مادة خام" لبحوث في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.. ولذلك لا أبالغ إذا قلت إنني في كل مرة أتهيأ للكتابة في هذه المساحة أبقى أكثر ميلًا لمزيد من تسجيل ما هو ذاتي واجتماعي إلى أن يتغلب السياسي، بحكم الاهتمام بما يدور في واقعنا العام.

لقد اكتشفت أنني كثيرا ما أنكص بوعدي للقارئ، لأن مقالات عديدة تنتهي بوعد بالاستكمال، ومن ذلك مقال أخير كان يناقش قضية المعارضة من الخارج، وضربت مثلًا بما جرى لمحمد بك فريد زعيم الحزب الوطني، وبما حدث أيام جمال عبد الناصر، ووعدت أن أستكمل بما وقع أيام أنور السادات، ولكنني لم أفِ، ربما لأن موضوعًا آخر كان أكثر إلحاحًا، أو لأنني كنت جزءًا من الظاهرة وعشت المرحلة وساهمت فيها سياسيًا وفكريًا، ووجدت الأمر محتاجًا إلى كثير من التركيز والتدقيق، لأنه متعدد الجوانب ويصعب اختزاله في مقال أو مقالين، حيث لا مجال في ظني للسلاسل طويلة المدى في صحيفة يومية.

وعلى أي حال، فإن فترة الرئيس السادات، التي بدأت عقب رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، أي في عام 1970، واستقر له الحكم تمامًا في مايو 1971؛ شهدت معارضة اختلط فيها ما هو سياسي بحت بما هو وطني عام.. وأقصد بالسياسي البحت ما كان يتسم بتوجهات أيديولوجية كان معظمها يساريًا، ورأى في أحداث 13 مايو 1971 انقلابا على توجهات جمال عبد الناصر، رغم أن السادات لم يتردد منذ البداية من أن يعلن أنه جاء على خطه، وانحنى أمام تمثاله في مجلس الأمة، أما ما هو وطني عام فهو المتصل أساسًا بالقضية الوطنية الكبرى التي تشغل بال الجميع، وقد كانت آنذاك إنهاء العدوان الإسرائيلي الصهيوني على مصر وتحرير الأرض، وقد شاءت الظروف أن أكون آنذاك ضمن مجموعة من الشباب الذين كان معظمهم في مرحلة الجامعة وبعضهم حديث التخرج، ولهم علاقات مع قيادات عمالية ونقابية، وكان الجميع ممن ضمهم التنظيم الطليعي "طليعة الاشتراكيين" ومن أعضاء منظمة الشباب الاشتراكي، ثم انتسبوا لمضمون سياسي اجتماعي تحت لافتة "الحركة الناصرية"، وأزعم أن تلك المرحلة من 1971 حتى حرب أكتوبر 1973 شهدت حراكًا سياسيًا وفكريًا هائلًا، إذ كانت الجامعات في قلب الحركة السياسية وكانت الحركة الطلابية قوية الساعد لدرجة أنها قادت الحراك السياسي بقوة، وتجلى ذلك عام 1972 وتفاصيله أوسع وأعقد من أن أختزلها في هذه المساحة.. وكان الديالوج الناصري- الماركسي حول النظرية والمنهج والمرحلية والاستراتيجية على أشده، وكانت القضية الوطنية محتدمة، وكان ثراء فكري هائل، إذ كانت مجلة الطليعة، ومعها مجلتا: الكاتب، والفكر المعاصر في أوج ازدهارها، وكل منها يمثل اتجاهًا سياسيًا وفكريًا، وكانت الأندية السياسية والفكرية تنشأ وتتوسع في الجامعة، وحاول أنور السادات أن يتعامل مع ما يحدث عبر عدة محاور.. محور أمني يوجه ضربات محدودة بين حين وآخر، ومحور امتصاص بترتيب لقاءات مع قيادات تلك الحركات، ومحور الترتيب للنقيض المتأسلم، بتقوية الجماعات الإسلامية في الجامعة، حيث رتب كمال أبو المجد لما سمي "اللقاء الإسلامي الأول" بجامعة عين شمس في فبراير 1972 لمواجهة لقاء ناصر الفكري الذي تأسس في 1971.. وفي مرحلة تالية أقدم السادات على لقاءات مباشرة بينه بشخصه وبين القيادات الطلابية، وقد كنت حاضرًا في اللقاء الذي رتب لجامعة عين شمس يوم الخميس 20 سبتمبر 1973 في برج العرب، وحضره ممدوح سالم وكمال أبو المجد والأستاذ الكبير الدكتور إسماعيل غانم مدير الجامعة، واستمر اللقاء من العاشرة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر.. وبعد 1973 والانتصار هدأت موجة المعارضة السياسية، إلى أن جاء الانفتاح وأحداث يناير 1977 التي كانت انفجارًا للمعارضة على قاعدة قضية وطنية أخرى هي القضية الاجتماعية، وعندها اتجه السادات لكسر المربع بزيارة القدس، لتعود المعارضة السياسية بصورة أكثر حدة وليتم الاقتران والارتباط بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي، وكان أن نشأت مراكز للمعارضة من الخارج، حيث كانت أعداد كبيرة من قيادات المرحلة السابقة ومن الصحفيين والكتاب والفنانين، قد سافروا واستقروا في عواصم أوروبية وعربية، وأنشئت تنظيمات وفتحت إذاعات وتوالت موجات الهجوم على سياسات السادات إلى أن اغتيل على يد حلفائه المتأسلمين في أكتوبر 1981.

وفي اعتقادي، ووفقًا لقراءة متأنية لما جرى، فإن محاولة لوراثة دور مصر كانت تراود صدام حسين ومعمر القذافي وياسر عرفات، وصاروا يسعون لها، ولم يخل الأمر من توظيف للمعارضة المصرية التي توزعت أجنحتها في تلك العواصم، وتلك قصة طويلة أظنها بحاجة ماسة إلى رصدها وتحليلها واستخلاص دروسها، لأن كل ذلك لم يفلح في تغيير نظام الحكم.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment