Wednesday 2 October 2019

الاستعداء على مصر.. درس تاريخي





يبدو أن الجهل بالتاريخ، وتجاهل قراءة واستيعاب دروسه، هو أحد عوامل ما يسمى "الصيرورة"، التي لها معان لغوية وفلسفية قد تصب في أنها الانتقال من حال إلى حال، بما في ذلك انقضاء ظواهر لتولد ظواهر أخرى، وأظننا بصدد حالة من حالات الجهل بالتاريخ وتجاهل دروسه، ممثلة في جبهتين، الأولى بعض رجال الأعمال في مصر، والثانية حركة الإخوان المسلمين ومن ارتضوا أن يكونوا رديفًا مساندًا لها وساعيًا لما تريده. ولن أتكلم عن الحالة الأولى في هذا المقال، وأتجه مباشرة للحالة الثانية، التي أصبحت غارقة تمامًا في مستنقع التورط مع جهات خارجية إقليمية ودولية تريد حصار وتقويض التجربة المصرية المرتبطة بثورة 30 يونيو، والتقت إرادة الإخوان وحلفائهم مع إرادة تلك الأطراف الخارجية، وأصبح كل طرف منهما يسعى لمزيد من توريط الآخر، دون أن يفطن الإخوان- ومن معهم- إلى أن درس التاريخ البعيد نسبيًا- والقريب أيضًا- يؤكد أن الاستعانة بالخارج والرهان عليه لتغيير أوضاع مصر رهان خاسر، والعجيب في ذلك الدرس أنه سواء كانت الاستعانة بالخارج من أجل تحقيق هدف وطني نبيل أو من أجل عكسه فإنها تفشل.. وكلنا أو بعضنا يذكر أنه في أوج احتدام النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني والسعي لنيل الجلاء والاستقلال حاول الزعيم الوطني، خالد الذكر، محمد فريد أن يطور العلاقة مع جهات أجنبية لتساعد الحزب الوطني في تلك المهمة المقدسة، وباع محمد فريد باشا معظم الأرض التي ورثها عن أبيه، وتقدر بخمسمائة فدان، من أجل دعم النضال الوطني، ووصل الأمر إلى أنه أفلس ومات في الغربة بطريقة مؤلمة، ولم يجد من يعينه، وتطوع أحد التجار من الغربية لدفع نفقات عودة جثمان محمد فريد!

ثم جاءت فترة أخرى، بعد قيام ثورة يوليو 1952، واحتدام الصراع بين توجهاتها وبين توجهات الإخوان وبعض الشخصيات غير الإخوانية، وكان من بين هذه الشخصيات محمود أبو الفتح وشقيقه أحمد أبو الفتح، حيث يجسد الأول محنة المعارض أو المناوئ المصري الذي يظن أن الخلاف مع النظام والصدام مع قيادته يبيحان كل محظور، على قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، ومن هذا المحظور استعداء جهات خارجية للمساعدة أو للعمل الفعلي على إسقاط النظام، أو بالحد الأدنى حصاره والضغط عليه ليقبل ما يريده ذلك المعارض أو المناوئ، دون أن يفطن صاحب الشأن أن مصر هي المضارة وهي الضحية، وأن رصاصته "السياسية والمعنوية" التي يوجهها إلى خصمه كنظام أو كرئيس تمر مباشرة في جسد الوطن وهي جريمة لا تسقط بالتقادم ولا تبرر بحال من الأحوال.

وفي لدد الخصومة مع عبد الناصر وخلط الأمور بين المصالح الذاتية الضيقة وبين الأهداف السياسية الشاملة؛ تعاون محمود أبو الفتح مع نوري السعيد، رئيس وزراء العراق، الذي اصطدم مع مصر آنذاك، وسعى مع الغرب لتأسيس حلف بغداد، وسعى للتعاون مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، كان محمود أبو الفتح يريد توريد صفقة "أوتوبيسات" لمصر، ولكن المناقصة- التي كان يشرف عليها السيد عبد اللطيف البغدادي- رست على "أبو رجيلة"، وكان محمود أبو الفتح يريد توريد بنادق عسكرية للجيش، ولكن عرضه رفض، وفاتح شقيقه أحمد أبو الفتح الرئيس عبد الناصر، أثناء لقاء لمحاولة تنقية الأجواء بين محمود وبين القيادة المصرية في شأن الأوتوبيسات والبنادق، واعتبار رفضهما معاداة لمحمود، وإذا بالرئيس يبدي ضيقه الشديد، ويتساءل: ما دخلي بالأوتوبيسات والبنادق اللي عاوز محمود يبيعها؟!

والمهم أنه محمود أبو الفتح- وهو خال أحد الصحفيين الذين لا يتوقفون لحظة عن مهاجمة ناصر والثورة، متخيلا أن الناس لا تعرف ماذا وراء ذلك- أرسل خطابًا لوزير الخارجية الإنجليزي، ثم لرئيس الوزراء البريطاني، يعرض فيه أن يتعاون بكل الوسائل مع الحكومة البريطانية في مواجهة النظام القائم في مصر، وزعم للبريطانيين في مراسلاته أنه لديه تحالف موجود في مصر، يضم من بين من يضم مصطفى النحاس باشا ومحمد نجيب، وأن لديه ضباطا يقومون بنشاط، ولديه تنظيم سياسي وتنظيم عسكري في الجيش، ثم أرسل للرئيس الأمريكي أيزنهاور رسالة يستعديه فيها على ما أسماه "الطغمة العسكرية الفاسدة الموجودة في مصر"، ثم كانت الطامة الكبرى عندما قام محمود أبو الفتح- ومعه مجموعة- بإنشاء محطات إذاعة معادية لمصر، والمفارقة أن الخارجية البريطانية تشككت في قدرتهم على فعل شيء، ولكن الذي تبناهم واعتنى بهم أكثر هو المخابرات العسكرية البريطانية، لأن بريطانيا كانت ترتب لعملية غزو مصر والعدوان عليها.

إن التفاصيل كثيرة في حالة محمود أبو الفتح، وموجودة لمن يريد أن يعرف في حلقة كاملة أذاعها الأستاذ هيكل في التليفزيون، ولم يرد عليه أحد، وموجودة في الوثائق البريطانية التي أضحت متاحة للاطلاع! وكان الدرس هو أنه لا محمود وأحمد أبو الفتح ولا الخارج اللذين استعانا به استطاع أن يغير الأوضاع في مصر! والحال نفسها مع الإخوان، الذين ذهبوا للسعودية ولبعض دول الخليج وأوروبا، وظلوا يعملون على استعدائها على مصر وعبد الناصر ولم يفلحوا، حتى تمت مصالحتهم مع أنور السادات بوساطة سعودية.

ونمضي مع الحقب لنصل إلى المعارضة ضد أنور السادات، تلك التي انتشرت في الخارج.. في لندن وفي باريس وفي طرابلس وفي بغداد وفي بيروت وهذا حديثا اخر.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 2 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment