Wednesday 9 October 2019

تراث الخوف القديم





قبل أن أنعطف لاستراحة قروية اعتدتها بين حين وآخر في هذه المساحة، أود أن أنوه إلى أن المقال الذي سبق وكتبته استجابة لنداء د. أبو الغار، وضمنته قائمة أولية بمصادر ومراجع تاريخية، قد تفيد من يريد أن ينتقل بالحوار من حول يوليو وعبد الناصر، من أن يبقى "خناقة" دورية إلى دراسة وفهم علميين، باعتماد قواعد البحث العلمي واستخلاص الدروس؛ قد خلا من ذكر العديد من عناوين المصادر والمراجع، ومن ثم أسماء مؤلفيها، وكان السبب هو أنني كتبت قائمة طويلة عربية وإفرنجية تجاوز عدد الكلمات فيها المطلوب لهذه المساحة، ومن ثم اضطررت لاختصار ما كتبته، ومن بين من لم أذكرهم السيد سامي شرف، الذي كتب مذكراته وكتبًا أخرى تعد مصدرًا مهمًا بحكم وجوده كسكرتير للرئيس عبد الناصر للمعلومات ووزير للرئاسة، وبالطبع فإنها تخضع عند الدراسة لما هو معلوم من القواعد المنهجية الخاصة بعلم مناهج البحث التاريخي.

وأنتقل إلى الاستراحة القروية، وهي هذه المرة مليئة بما لم يكن مريحًا على الإطلاق في تلك المرحلة من الطفولة والصبا.. ألا وهو مصادر الخوف، بل والفزع، الذي كان إذا استبد بنا صرنا بين نقيضين، إما أن تخور قوانا وينهد حيلنا فلا نقدر على الحركة وربما ابتلت السراويل وما فوقها من "هلاهيل" جراء التبول اللاإرادي في اليقظة. وإما أن نحوز قوة ثيران جامحة جراء تدفق الأدرينالين- حسبما عرفت فيما بعد- فكان الواحد يركض ومن شدة فزعه وسرعة ركضه يخال كأن عقبيه يصلان إلى قفاه.

فزع من الطبيعة في الشتاء الممطر الموحل والأيادي الغضة، أثر فيها الصقيع فأصابها القشف على ظهر كفها وتحول الجلد إلى شقوق مدممة مؤلمة، ومثله الجلد من حول الشفتين والأنف، ولا يخلو باطن كفها من بقايا جروح تركتها أسنان المناجل والشراشر، ورغم ذلك تقبض اليدان على "رواسة" البهائم، وهي عائدة عند حلق المغرب الذي حل ظلامه مبكرًا، إثر تراكم الغيوم السوداء الداكنة القادمة من "بحري"- الشمال- وتكون الواقعة سوداء أكثر إذا كان طريق العودة متقاطعًا مع مجرى مائي "السيالة" إذا كنت قادمًا من ناحية مدخل البلد الممتد من الترعة الكبيرة، و"العداية"، إذا كنت قادمًا من طريق آخر.. والخوف كل الخوف ليس من أن تنزلق أنت في الوحل وتتلطخ ملابسك كلها، بل من أن تنزلق إحدى البهائم- وخاصة إذا كانت "عشراء" أي حبلى- فتنكسر ساقها أو تتمزق عضلاتها، فلا تستطيع النهوض! وفزع في الصيف خاصة وقت "القيالة"- القيلولة- في سكك شبه خالية، خاصة إذا اشتد القيظ وظهرت "غنم إبليس" في الأفق أمام العينين، وما "غنم إبليس" إلا انكسارات الأشعة الملتهبة في الهواء بالقرب من الأرض الترابية التي تتصاعد منها الحرارة.. فزع من عفاريت القيالة الذين قد يظهرون في أشكال حيوانية كأفعى، أي حنش، يطل رأسه وجزء من عنقه من مياه الترعة، أو يتمدد على حشائش الرعراع والزربيح والعاقول المتكاثفة على الشطآن.. أو على شكل طيور الحدأة المتراصة على أسوار المدافن!

وسيان كان الوقت ليلًا مقمرًا أو حالك السواد، فلكل عفاريته.. إذ تحت قمر 14 تكون الفاتنة الجالسة على حرف قنطرة الترعة تمشط شعرها الطويل الذهبي وتبلبط بقدميها ونصف ساقيها في المياه لتتناثر طراطيش تراها حضرتك فضية، وكأنها ريالات السلطان حسين، فإذا اقتربت قفزت الفاتنة في الماء لتعلو الطراطيش، وتتخيل أنها طالتك بالبلل، ولكن لا أثر لمياه على التراب ولا على طوب القنطرة! وفي حلكة المحاق، حيث تظهر في السماء كل تفاصيل درب التبانة أو سكة اللبانة.. أفلاك بغير حصر ترصد العين منها بسهولة ما تواتر في الذاكرة الشعبية، فهذه هي المغرفة.. وتلك هي الثريا.. و"العصيان"- العصي- عندها يظهر "الوارد" أو "المارد" أمامك على مرمى بصرك.. طويل لا ترى سوى ظهره وأكتافه، وعلى رأسه عمامة بيضاء يظهر ويتوارى، خاصة إذا كان الموسم موسم نضج نبات الذرة، التي بعد أن كانت نيلية متوسطة الطول صارت هجينًا بالغ الطول يمكن أن تمتد من بينها أذرع تخطفك فلا يظهر لك أثر، لتمضي بك في "التركيب الخِرْس" أي القناة التي تشق الحقل لتنقل المياه لأحواضه، وتكون طويلة بطول الحقل كله مظلمة بحكم تراكم النباتات من حولها وبحكم حلكة الليل.. ويا حبذا لو قفز ثعلب أو نمس أمامك عبر السكة منتقلا من ناحية لأخرى، أو فزعت بومة من اقتراب خطوك وهي تحاول اقتناص فأر.

يحكي شقيقي الأصغر عصام، ليلة أن كان عائدًا من الغيط من حوض "جريد" يسحب البهائم ومعه جلال ابن عمه، فيما عمنا إبراهيم- رحمه الله- يركب الركوبة من ورائهما ويسحب بدوره بقية البهائم، وفجأة والليل بعد صلاة العشاء، تقف أول بهيمة لتنفر نفرة عنيفة من أنفها وتفرمل بأظلافها الأمامية وتزوم بقوة، وينتقل النفر وصوت الزوام إلى البقية، ويتيبس الصبيان في مكانهما مرتعدين، رغم أنهما لم يبصرا شيئًا.

ويدرك العم أن واحدًا أو واحدة من "بسم الله الرحمن الرحيم"، قد ظهر خفيًا فشعرت به الحيوانات ليعلو صوته "امشي يا ولد أنت وهو.. ماتخافوش.. مفيش حاجة تخوف"، ويتسمر الجميع دقائق لحين اطمأنت البهيمة المتقدمة واستأنفت سيرها!
وربما يكون لحديث الخوف القديم صلة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment