Wednesday 30 October 2019

أشجار في سكة العبد لله



جميزة سيدي منصور، صاحب الضريح الملاصق لدارنا القديمة، وكان لها فرع يدور من حول القبة، ولا تسقط أوراقه في الخريف والشتاء، عكس بقية الشجرة، ولا يثمر إلا "البرِّيم"، راء مشددة مكسورة، وهو الثمرة الصغيرة جدًا من الجميز، وغير قابلة للتختين، ومن يصعدها يقع مكسورًا، وإذا تجرأت إحداهن على سكب مياه الغسل بعد الجنابة بجوار الضريح، أو جرؤ أحد على ربط ماشيته بالقرب منه.. فسيصيبها العقم هي وزوجها، وتفطس الماشية!

ثم جميزة سيدي علي الزبيري، الواقع ضريحه على جسر ترعة القضابة القادمة إلينا من المنوفية، واسمها هناك الباجورية، ويُقال إنه من أحفاد الزبير بن العوام، وعندما كانوا يوسعون الطريق الممتد من طنطا إلى دسوق، مرورًا بعدة قرى، منها قريتنا جناج، أرادوا قطع الجميزة، التي تعترض التوسعة، ورفض العمال من الفلاحين أن ينفذوا الأمر، وطلبوا إلى المهندس ذات نفسه أن يتفضل هو، وعندما سحب أول ضربة منشار سال الدم نزيفًا من لحاء الجميزة، فارتعد وكان أن انحنى الطريق والتف من بعيد وبقيت الجميزة، التي كانت مصدرًا للطمأنينة في ليالي الشتاء السوداء، الممطرة الموحلة الخالية من الأنس، وتكثر فيها العفاريت، وإذا جاء المسافر متأخرًا ونزل عند سيدي علي، كانت الجميزة ملاذًا يقي من المطر ويرفع الروح المعنوية.

ثم جميزة "أبو العبد"، الذي لا يُعرف سواء هو أو "أبو الفتح"، هل كانا من الأولياء أم العمد والمشايخ، أم أول من دفن، لأنهما علمان سُميت باسمهما الجبانتان الرئيسيتان للقرية، وتقع "أبو العبد" على الطريق الرئيسية القادمة من جسر ترعة القضابة، وتقع الثانية "أبو الفتح" على طريق فرعية، من أهم معالمها ضريح ومسجد سيدي إبراهيم بصيلة، وهو ولي معاصر من أسرة بصيلة المشهورة، وكان منها أعلام في غير مجال.. ولم تكن ثمار جميزة أبو العبد يتم تختينها وتترك حتى تتضخم، وتتحول إلى "باط"، إذا فتحت الثمرة خرجت عليك موجة من الهاموش الأسود الساكن داخل الثمرة.. وتبقى الثمار متناثرة على الأرض في الطريق وفوق المقابر، ويُقال إن الدواب التي تقتات على أي شيء لا تقترب منها، لأنها مليانة من دماء ورفات الموتى!

وكانت جميزة غيط أخوالي في حوض الجنادي تظلل "الكباس"- الساقية- الضخم المجوز، أي الذي تدور به بهيمتان وليس واحدة، وكان يتم تختينها بجرح الثمرة بسكين أو قطعة صفيح لينزل من الجرح سائل لبني لزج، وتندمل الفتحة بلون أسود، ويتحول سكر الفركتوز إلى جلوكوز أحلى من العسل، وتُجمع مبكرًا يومين أو ثلاثة لتوضع في سبت ومن فوقها أوراق الصفصاف والرعراع!

ولي شخصيًا معها قصص فيها من المأساوي ما يستحق أن يُحكى، ولو استطردت في سرد "جميزات" عشت معها في طفولتي وصباي وشبابي المبكر لملأت صفحة الجريدة.

بعد الجميز يأتي التوت ثم الصفصاف، وهو مربط الفرس في هذه السطور، إذ تصادف وسافرت لكندا والولايات المتحدة والمكسيك وكل أوروبا تقريبًا، وكان هناك من تفضلوا بتعريفي بأن هذا "أوك"، أي بلوط، وهذا صنوبر، وذلك أرز، وجوز، وبندق، وسرو وزان، وكستناء، وفستق، وكرز.. وهلم جرا.

إلى أن صحت فجأة فرحًا ومندهشًا بأن هناك شجرة بلدياتي.. أحببتها وصعدتها، وكثيرًا ما جلست في ظلها وتأملت ملامسة أهداب فروعها الطويلة لوجه ماء الترعة الكبيرة "القضابة" والسيالة، والعداية، والفرع الصغير الذي يحمل الماء من كباس الجمالين إلى أرضنا! من فوري سألت: ما اسمها هنا؟ فقيل لي: اسمها weeping willow، أي الصفصافة الباكية، وقلت إننا نسميها الصفصافة شعر البنت، أو أم الشعور.. وفعلًا إذا نظرت إليها خُيل لك أن شعر امرأة طويلًا جدًا يتدلى من حولها كلها حتى كاد جسدها أن يختفي.. أو خيل لك أن امرأة نكشت شعرها حزنًا وانخرطت باكية!

وجدتها في أقصى الشمال بكندا.. ضخمة هائلة خضرتها داكنة.. ووجدتها في الولايات المتحدة وفي المكسيك.. وفي رحلتي التي عدت منها مؤخرًا نزلت في الصباح الباكر أتمشى على نهر يندينهوف زيورخ بسويسرا ، وعبرت من على أحد الجسور باتجاه المدينة القديمة، وفيما اندهاشي ومتعتي يتضاعفان بالأزقة المبلطة بمربعات صغيرة 10 سم × 10 سم من البازلت الأسود والمشرب بحمرة، وبعضها أزقة مسقوفة لا يتجاوز عرضها مترًا ونصف المتر، لمحتها من بعيد.. صفصافة شعر بنت أو ناحبة تتدلى شعورها على صفحة النهر وملاصقة لبيت قديم مكتوب على بابه سنة 1672، ومن ورائها سلسلة بيوت كل أساساتها ومداميكها السفلى في المياه، أما شرفاتها فهي بلكونات أقرب للمشربيات، محمولة على كمرات خشبية تستند إلى كمرات أخرى مائلة ومرتكزة في الجدار الخارجي.. وعند أول "دكة"- أريكة- خشبية جلست أمام المشهد.. الصفصافة والمنازل والبازلت والأزقة ورائحة التاريخ، التي أستطيع تمييزها، كما لو كنت كلبًا تاريخيًا مدربًا على كشف العراقة، ولو من عمق أربعة قرون.

كانت صفصافات طفولتي وصباي وشبابي المبكر، هي المتراصة على "البحر الخناق"- القطني- القادم من بسيون ليمر على شبراتنا، وعليه يطل حوض الجنادي الذي فيه الأرض التي ورثتها أمي هي وإخوتها الاثنا عشر، وكانت ستي أم أمي كثيرًا ما تبوح بالسر، وهو أنها أرض غير "مبروكة"- مباركة- لأنها اشتريت بالربا، أي بقرض أخذه جدي من بنك كريدي ليونيه إيجبت نهاية القرن التاسع عشر، أو مطالع القرن العشرين.. وقد حدث فلم يتبق من الكذا وثلاثين فدانًا سهم واحد في حوزة السلالة! وأتمنى أن يكون لحديث الأشجار في تاريخ العبد لله صلة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 30 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment