Thursday 10 October 2019

التخطيط الجهنمي لمزيد من التفتيت





مؤكد أن هناك من خطط ويخطط لأن تبقى مصر في حالة مستمرة من الاشتباك الداخلي المنهِك، حول قضايا ومسائل وفرضيات لا يمكن حسمها لصالح أي وجهة نظر وأي طرف، وهناك بالقطع من يجمع بين التخطيط والتنفيذ ورصد المسار والنتائج، وكلما استنفدت قضية ومسألة وفرضية وتركها الناس بعد أن أنهكهم وأعياهم الجدل فيها أُلقيت أخرى جديدة؛ لكي يستمر ضمان تحول مصر من جسد حي إلى جثمان متحلل، إذ الفرق واضح، لأن الجسد الحي مشتبك مع محيطه متفاعل فيه ومعه، وله وظائف عضوية ومجالات للحركة والتأثير والتأثر وصنع التراكم الذي هو أساس التاريخ، فيما الجثمان مشتبك في داخله، حيث ترتع الديدان والبكتيريا ويفوح النتن ويتحول ما كان حيا غضا منتجا إلى ميت متحلل منتن عديم الفائدة.

وها نحن، ومع السادس من أكتوبر، تفتح أبواب الجدل العقيم المزري حول مسألة تجاهل اسم مبارك، وبدأت الجوقة إياها، التي لم تكد تنتهي من الجدل نفسه في سبتمبر، ومن قبله يوليو حول عبد الناصر وثورة يوليو.. ومن قبلها كان يونيو، حيث الحال نفسها مع النكسة والهزيمة!

جدل.. في جدل.. صفري مزعج بلا نهاية ولا فائدة للوطن، اللهم لأصحابه من مخططين ومنفذين يريدون وضع العصي الصلبة الغليظة في العجلة التي تدور لتنمية الوطن وحمايته وصد الهجمات من كل اتجاه! ومع هؤلاء المخططين والمنفذين آخرون يعملون على أن تبقى مصر مطحونة غارقة في مستنقع الاختلافات والمشاحنات والخناقات الداخلية، بينما أطراف إقليمية استطاعت أن تقتطع لدولها مساحات هائلة من الفعل والتأثير.. ولكم بل لنا جميعا أن ننظر إلى المساحات التي اقتنصتها الدولة الصهيونية وتركيا وإيران وإثيوبيا، وفيها ما هو تهديد مباشر وخطير للوجود المصري، كوجود إنساني عضوي!

في أكتوبر جرى العرف الذي لم ينقضِ على توجيه التحية والإشادة لجيش وشعب مصر وللقوات المسلحة جملة وتفصيلا وللشهداء ولصاحب قرار الحرب.. وعلى تقديم التقييم التاريخي للانتصار الجبار، وحتمية أن تستمر روح أكتوبر في حاضر الوطن ومستقبله، وأن تتم زيارة النصب التذكاري ومثوى السادات وعبد الناصر.. هكذا كان الحال أيام مبارك والآن، ولم يجر العرف على أن يتحول الاحتفال- وعلى الأقل في كلمة رئيس الجمهورية- إلى ما يشبه حفلات الأعراس فيذكر كل واحد باسمه!

إنهم يتباكون على عدم ذكر اسم مبارك، ويتناسون أن مبارك نفسه هو من أزال اسم وصورة رئيس أركان القوات المسلحة أثناء التخطيط للحرب وتنفيذها، سعد الدين الشاذلي، ومحا صورته من الصورة الشهيرة لغرفة العمليات أثناء الحرب، وفيها يظهر السادات والمشير إسماعيل والفريق الجمسي ويختفي الشاذلي.. ثم يتناسون ما جرى للمشير أبي غزالة وللمشير الجمسي وليوسف صبري أبو طالب، وغيرهم ممن مسهم وحاق بهم الغبن أيام مبارك! ثم يتناسون أن الرئيس السيسي هو من أعاد الاعتبار للجميع، ابتداء من محمد نجيب ويوسف صديق وليس انتهاء بالشاذلي! ثم يتناسون أيضا أن مبارك هو من وضع المسألة في مأزق رهيب، حيث إنه أدين بحكم قضائي نهائي بات من محكمة النقض- أعلى هيئة قضائية في مصر- في قضية أموال عامة مخلة بالشرف، ولا تقبل الإسقاط بالمصالحة.. ثم يتساءلون ويتباكون ولا يسألون أنفسهم عن الأبعاد السياسية والقانونية، ناهيك عن أن 30 يونيو متصلة بشرعية 25 يناير الذي- وفق الدستور- كان ثورة على نظام مبارك!

المسألة إذن أعقد بكثير من بكائيات التماسيح الذين يذرفون دمعًا زائفًا على شخص بعينه، بينما الحقيقة أنهم يذرفون دمعًا من دم على المغانم والمكاسب والتربحات التي نهلوها، أو بالبلدي "هبروها" في كل اتجاه، ابتداءً من الأراضي وأملاك الدولة وليس انتهاء بالشواطئ والامتيازات التي بلا حصر، وكلها كانت تحت سقف نظام من يتباكون على عدم ذكر اسمه.

لقد ظللنا طيلة ثلاثين عامًا نسمع اختزالا لحرب أكتوبر في "الضربة الجوية" فقط، وحتى دون ذكر لأبطال القوات الجوية الذين استشهدوا في الطلعات الجوية، والذين أصيبوا، والذين كانوا في المواقع الميدانية بعيدا عن غرفة العمليات شديدة التحصين، ودون ذكر أيضا لدور بقية الأفرع والأسلحة والضباط الكبار، عباقرة التخطيط والعمليات والتنفيذ والصف والجنود.. ومع ذلك فإن أحدا- مهما كان اتجاهه- لا يمكن أن ينكر دور أي من قادة أكتوبر بمن في ذلك مبارك، وما كان الوضع الحالي على ما هو عليه- بعدم تركيز الأضواء عليه- إلا لاعتبارات عديدة ذكرت بعضها في هذه السطور.

لقد آن الأوان أن نصرخ بكل طاقتنا: كفاية فتح قضايا ومسائل ومشكلات وخناقات فرعية، وليكن التركيز، كل التركيز.. والحوار كل الحوار.. والسعي كل السعي.. والعمل كل العمل على كيفية مواصلة مسيرة التنمية وتلافي أي أخطاء وتجاوز أي معوقات وعقبات؛ وعلى كيفية مواجهة التهام المنطقة من أطراف إقليمية على حساب دور مصر، بل على حساب وجودها ووجود شعبها.. فهل نستفيق مما خطط ويخطط لنا وهل ننتبه لمن يجروننا جرا للغرق في مستنقع خلافات من هذا النوع؟

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment