Thursday 24 October 2019

الاستغفال





ربما هو ما يسمونه عته الشيخوخة وتخريفات الكهولة أن يتملك المرء، وهو يقترب من الخامسة والسبعين، وليس لديه على المستوى الشخصي ما يفقده، خوف مرضي، "فوبيا"، على حاضر ومستقبل وطنه، ويسكنه الشك اليقيني أن كل ما يحدث هو لخطف المحروسة مصر، واستكمال ما خطط لتفتيتها وتفكيكها، ولذلك فإن النموذج البدائي الذي يتقنه اللصوص لسرقة ما في السيارة وصاحبها جالس أمام عجلة القيادة، هو ما يتم تنفيذه في المنطقة، الآن، ومنذ عدة سنوات، والشرط الأساسي لنجاح اللص هو أن تكون الغنائم مهملة على الكرسي المجاور للسائق، أو على الكنبة الخلفية، أو على التابلوه، والنوافذ مفتوحة، ليأتي الحرامي و"يدق أو يرزع أو يهبد" على جانب السيارة ليلتفت صاحبنا، وفي لمح البصر وسرعة البرق تكون الحقيبة أو الهاتف أو اللاب بين أصابع السارق يجري بها بعيدًا، وصاحبنا مازال يحاول النزول أو يحاول الاستنجاد بالمارة دون فائدة!

"خبط ورزع وهبد وبارود ودماء وخراب"، شرقًا وغربًا وجنوبًا من حول مصر، وفي لحظة ما تناثرت مكوناتها وتحطمت نوافذها وشرعت أبوابها ونقبت جدرانها، والجالس على عجلة القيادة ساهم يضع يده على خده، وإذا بمنابع النيل تُسرق والاقتصاد ينهار والحرائق الدينية والطائفية والمذهبية والفئوية تشتعل، ويتمكن من دبرها ومولها ونفذها من أن يستولي على كرسي القيادة!، ولأنه وحسب المعتقدات الإيمانية للعجائز، فإنك تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، فقد قيض القدر للمحروسة من استطاع أن يسترد عجلة القيادة، وأن يطارد اللصوص، وأن يحاول استرداد ما تم الاستيلاء عليه، وكان حتميًا ومحتمًا ومحتومًا وبالحتم وكل مشتقات "حتم"، أن تتم إعادة ترتيب الأمور، وإصلاح ما تم تدميره من جدران ونوافذ وأبواب وتنظيم الحركة عبرها، ولأنه ظرف بالغ الخطورة وبالغ الاستثناء، فإن التدقيق والتضييق والحساسية من أي حركة قد تؤدي إلى الفوضى ثانية، وتشتت التركيز وتسمح للصوص بأن يعاودوا الكرة، كان وسيبقى تدقيقًا وتضييقًا حتميين، وسلوكًا لا بديل عنه لمرحلة انتقالية تشهد اكتمال البناء والسيطرة، وبعدها فلن يبقى للصوص فرصة لالتقاط ما تناثر بالإهمال واللامبالاة والفوضى.

ومن عته الشيخوخة وتخاريف الكهولة أيضًا، أن يتذكر المرء التفاصيل الدقيقة للماضي السحيق، وأن يستبد به الحنين دومًا والتمسك بجذور انتمائه وأصول نشأته وقواعد مسلكياته، فقد يتصادف لمثلي أن يختلي بـ"مشنَّة" عيش طري وسلطانية جبن قديم ومش وشرش بصل وكوم جعضيض وسريس، وبعدها شاي زردة ثقيل التلقيمة، شايا ناعما وسكرا، ليضرب عرض الحائط بكل تعليمات الأطباء وبوصاية العيال، ولأن الاعتراف سيد الأدلة، فإنني أعترف ودون أية مسوغات من النظرية ومن المنهج بأنني أتمسك بأصولي السياسية، التي هي الديمقراطية الاجتماعية ذات الصيغة المركزية، والتي لها وجه اقتصادي يتوزع بين ملكية خاصة وملكية تعاونية وثالثة عامة، ولها وجه اجتماعي يسعى لتقريب الفوارق بين الطبقات، والتصدي لفحش الاستغلال وضراوة ونهم رأس المال، ولست مع "السداح مداح" بأية صورة.. لا مع ديمقراطية كل من في دماغه ومزاجه حاجة لازم يعملها أينما ووقتما شاء، ولا مع اقتصاد ما تطوله العب به، وكل مال النبي والصحابة طالما ورقك مرتب، واكسب واربح بغير حدود.

ثم إنني لست ممن يفتشون في ضمائر الخلق، خاصة إذا كانوا من العينة التي تضع لنفسها مكانة وهيبة، ولو عبر لافتة رئاسة تيار أو حزب أو جماعة أو جمعية، فكل واحد حر في هيبته ومكانته، ولكن بعد إذنه هناك مطلب واحد، هو ألا يطالب الناس بأن يغفلوا عن تاريخه أو أصوله السياسية والنظرية والمنهجية، ولا عن ممارساته، وألا يطالب الآخرين بأن يلتزموا بما يرى هو أنه الصحيح المطلق، ولا صحيح سواه.

ويبدو– والله أعلم– أن حكاية التمسك بالأصول، ومعها حكاية الخوف المرضي على المحروسة، هما من وراء شغفي، وآخرين اكتشفت أنهم يوافقونني، بالنموذج الإسباني بقيادة فرانكو، ذلك النموذج الذي استطاع أن ينتقل بإسبانيا من تخلف وتفكك وانهيار واقتتال إلى بلد متقدم نسبيًا ومتماسك، وله دور في محيطه الأوروبي، وبعد أن تم إنجاز المرحلة الانتقالية تلك، تم تسليم البلد قويًا معافى، وربنا يستر الآن على إسبانيا من دعاوي وحراكات التفتيت على أسس عرقية وثقافية!، تلك الدعاوي التي لم تكن موجودة أيام المرحوم فرانكو!

إنني أدرك حجم "التجديف والهرطقة" اللذين ارتكبتهما في حق الكتاب الديمقراطي الليبرالي المهيب، وأدرك مدى التهكم والتهجم اللذين ستنالهما هذه السطور من سادتنا الأوصياء على الدولة المدنية الديمقراطية، الذين أعرف عن قرب معظمهم، بل وأعرف رأي بعضهم في بعضهم الآخر، وربما جاءت فرصة لأكتب ممارسًا حقي المدني الديمقراطي، الذي يبشروننا به كاملًا في ظل قيادتهم الحكيمة.

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 24 أكتوبر 2019.

No comments:

Post a Comment