Wednesday 20 April 2016

المغالطة الأكذوبة




أكبر وأخطر مغالطة إن لم تكن أكذوبة في مسألة الجزيرتين هي تعمد البعض تقسيم أطراف الحوار والجدل أو الاختلاف والعراك إلى مفرِّطين في الأرض وإلى متمسكين بها.. وطبعا الأرض هي العرض والشرف والكرامة والوطن والوجود وغيرها! وطبعا أيضا سيظهر المتمسكون بالأرض هم الأجدر بالاستماع إليهم والأحق بالحياة في الوطن وتقرير حاضره ومستقبله، إذ كيف لخونة يفرطون في الأرض، أي العرض، أي الشرف والكرامة والوطن، أن يستمع لهم أحد أو أن يعيشوا من الأساس؟!

إنها ليست المرة الأولى في تاريخنا المعاصر، خاصة بعد عام 1952.. أي بعد ثورة يوليو، إذ رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه ولا يتكرر إنما تتشابه أحداثه أحيانا وتتماثل دروسه أحيانا أخرى، لأن الجدل نفسه والتقسيم ذاته تقريبًا حدث عند مفاوضات الجلاء، واحتدم بعد توقيع الاتفاق وإعلانه عام 1954، وانهال النقد والتجريح والسباب والتخوين على جمال عبد الناصر والضباط الأحرار، ولم يلتفت الذين تحول كل واحد فيهم إلى نموذج للوطنية والشرف- واعتبر نفسه فيلسوف عصره وحكيم زمانه وعالم علماء عصره في القانون والدبلوماسية- إلى الجهد الذي بذله ناصر ومن معه من خبراء وعلماء وأعضاء في وفد التفاوض، ولا التفتوا إلى الظروف الموضوعية التي حكمت مناخ التفاوض، وإلى آخر ما يتصل بمسألة متخصصة دقيقة.

كان جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء آنذاك، ورئيسا للوفد المصري في التفاوض، ومعه في الوفد عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وصلاح سالم ومحمود فوزي. واشتملت الاتفاقية على ثلاث عشرة مادة، ولها ملاحق ومرفقات وانصب الانتقاد والهجوم على المادة الثانية عشرة التي نصت على ثلاث نقاط.

الأولى: يظل هذا الاتفاق نافذا مدة سبع سنوات من تاريخ توقيعه، والثانية: تتشاور الحكومتان خلال الاثني عشر شهرا الأخيرة من تلك المدة لتقرير ما يلزم من تدابير عند انتهاء الاتفاق، والنقطة الثالثة: ينتهي العمل بهذا الاتفاق بعد سبع سنوات من تاريخ التوقيع عليه، وعلى حكومة المملكة المتحدة أن تنقل أو تتصرف فيما قد يتبقى لها وقتئذ من ممتلكات في القاعدة ما لم تتفق الحكومتان المتعاقدتان على مد هذا الاتفاق!

وكانت المادة الرابعة هي الأخرى مثارا للتخوين، لأنها نصت على أنه: "في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفا في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية الموقع عليها في القاهرة في الثالث عشر من إبريل سنة 1950 أو على تركيا تقدم مصر للمملكة المتحدة من التسهيلات ما قد يكون لازما لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة، وتتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية في حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى للأغراض سالفة الذكر".

انصب الهجوم وأشهر سلاح التخوين ضد عبد الناصر ورفاقه على أساس أنهم لم يطردوا المحتل البريطاني شر طردة ودفعة واحدة وأنهم فرطوا في الأرض المصرية بموافقتهم على عودة بريطانيا إلى القاعدة وإلى الموانئ المصرية! ومضت الأيام وحدث أن طردت بريطانيا ليس فقط من مصر وإنما من تاريخ الدول الإمبراطورية بعد العدوان الثلاثي عام 1956.

وكان المثال الآخر الذي اشتعل فيه العراك واستخدم سلاح التخوين- وربما ما زال الاشتعال مستمرا في أذهان البعض إلى الآن- هو الاتفاقية التي أبرمتها مصر لتقرير مصير السودان، على أن يسبقه قيام الحكم الذاتي الكامل في السودان فورا.

كان ذلك في نوفمبر 1952، وعندها قرر جهابذة الوطنية والحكمة والعلم آنذاك أن ثورة يوليو فرّطت في التراب المصري، باعتبار السودان أحد الأملاك المصرية، وأن عبد الناصر خائن لأنه وافق على تقرير السودانيين لمصيرهم، وإلى الآن هناك من لا يتردد ولا يتورع عن إرجاع أي مشكلة بين مصر والسودان الآن إلى تفريط يوليو وخيانة عبد الناصر! وينسى كل هؤلاء الجهابذة قديما وحاليا أن يوليو وناصر نادوا بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وأن حرية الأوطان لا تنفصل عن حرية الشعوب، وأن ناصر لمع في كل العالم وخلال حقبتين متصلتين لأنه كان من رواد التحرر الوطني، وأن مصر وقفت إلى جانب شعوب العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية!

وأعود إلى قضية جزيرتي صنافير وتيران، وأتوقف ثانية أمام منظري وحكماء توزيع صكوك الوطنية على أساس التمييز بين المفرطين وبين المتمسكين.

وأتجه- في سابقة نادرة- إلى إهمال شخوص وسطور وادعاءات الذين بادروا إلى التهجم- ومنهم من ادعى أنه الفيلسوف الذي نفى كل الفلاسفة عبر التاريخ وأودعهم قمقم النسيان- لأن التركيز الآن فيما أرى يجب أن ينصب على أمرين، الأول: هو أن يؤدي مجلس النواب دوره فيما يتصل باتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية- السعودية أداء سليما تتوافر له وفيه كل معايير الدقة ليأتي قراره صحيحا، والثاني: هو العمل على تلافي أي آثار سلبية تؤثر على علاقتنا بالمملكة العربية السعودية وأشقائنا العرب في دول مجلس التعاون الخليجي، لأن الحصار المضروب من حولنا غربا وشمالا وشمالا بشرق وجنوبا يحتم علينا أن نحافظ على علاقتنا بالجار الشرقي المباشر الذي لم يتردد عن الوقوف معنا في أحلك اللحظات، ليس فقط من أجلنا ولكن لأنه يدرك أن انهيار مصر يؤدي عاجلا أو آجلا إلى انهياره هو الآخر، وفي هذا تفاصيل هائلة ليس هذا مجالها.

إن القضية ليست بين التفريط وبين التمسك، وليست بين الخيانة وبين الوطنية، ولكنها بين التقدير الخاطئ وبين التقدير الصحيح، أولهما يفتقد الاستناد إلى مسوغات واضحة متعددة الجوانب، والثاني يستند استنادا قويا عليها، وهو ما يصدق على مسألة الحدود وعلى مسألة المصالح والعلاقات المصرية العربية والدولية.

لقد أبرم ناصر اتفاقية الجلاء ومن قبله أبرم النحاس المعاهدة، وتكفل الزمن بأن تتجاوز مصر ما لم يكن في صالحها.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21 أبريل 2016

No comments:

Post a Comment