Thursday 7 April 2016

في متن زيارة الملك سلمان





هذه المرة تنصرف المصطلحات إلى معانيها ومضامينها مباشرة دون تحميلها فوق طاقتها وبغير مهارات بلاغية ومبالغات أيديولوجية وألاعيب سياسية، والمصطلحات التي أعنيها وأقصدها تتصل بما يرتبط بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود لمصر، إذ إننا في مصر وفي المملكة وفي الوطن العربي والمنطقة ككل نعيش ما قد تجاوز "المنعطف الخطير" و"اللحظات الحرجة" و"المصالح المشتركة" إلى أنه "منزلق فعلي" و"لحظات حياة أو موت" تهدد الوجود ذاته، سواء كدول لها إقليمها وشعبها وسلطتها، حيث الإقليم أي الأرض مستهدفة بالتفتت والشعب مهدد بالإرهاب وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء والسلطة مهددة بحتمية اختيارات بالغة الصعوبة لم تكن في حسبان أحد.. وباختصار فإن الجميع مهددون في وجودهم الإنساني الشامل، والأعداء متربصون وفاعلون ولا يخفون خططهم ولا مواقفهم وآخرها ما كتبه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ورد عليه تركي بن فيصل بن عبد العزيز.

ودون الاستغراق في استرجاع الماضي بتفاصيله فإن دروسه الواضحة أي دروس التاريخ وربما قوانينه التي تحكم مسار البلدين ومعهما أمة العرب – وهو مصطلح قد لا يعجب البعض الآن – تؤكد أن هناك مراكز رئيسية ذات ثقل راجح في المشرق العربي الذي يبدأ من مصر غربا وتتصل مساحته لتصل إلى بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية.

يؤدي الشقاق أو التنافر وأي تصادم بين رؤاها وسياساتها إلى نشوء وتعاظم ثم استفحال المخاطر التي تصل إلى تهديد وجود الدول ذاته، وكم هو مفيد أن أجد فرصة لنشر محاضر الاجتماع بين وفدي مصر برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر والمملكة برئاسة الملك فيصل بن عبد العزيز، وكانت القاهرة مكان الاجتماع وفيه كانت مصارحة شديدة حول الآثار المدمرة للتصادم بين البلدين وكيف لعب حزب البعث تحديدا دورا خطيرا في تأجيج هذا الصدام، وتضمن الاجتماع رؤية إستراتيجية مستقبلية عن الرئيس عبد الناصر يتحدث فيها عن دور مصر ومنهجها بعد هزيمة 1967.

وتأتي زيارة الملك سلمان لتفتح الأذهان في مصر وفي المملكة، وخاصة أذهان المهتمين بالأمن الوطني للبلدين والأمن القومي لكليهما معا ثم للأمة العربية إلى حتمية تأصيل الأهمية القصوى للبحر الأحمر من شماله بخليجي العقبة والسويس إلى جنوبه عند باب المندب واتصاله ببحر العرب وصولا إلى هرمز والخليج باعتباره العمود الفقري لهذا الأمن باختلاف مستوياته الوطنية والعربية والإقليمية، لأن المرء يعجب كثيرا من إهمال هذه القضية قياسا على التركيز الشديد بالنسبة للبحر المتوسط.

وعند أي دارس في مصر مثلا للتاريخ وللجغرافيا ثم السياسة، فإن البحر الأحمر من شماله إلى جنوبه كان الوجهة الرئيسة لكل ملوك مصر الأقوياء في حقب تاريخها القديم، ولذلك فإنهم عندما أرادوا تحديد أمن مصر الاستراتيجي آنذاك قالوا إنه يمتد شمالا من منابع المياه المعكوسة أي دجلة والفرات ومعلوم أن القدامى كانوا يعتبرون كل نهر لا يجري من الجنوب إلى الشمال مثل النيل فإن مجراه معكوس!!، إلى قرن الأرض جنوبا أي القرن الإفريقي، لأنهم وعبر قرون أدركوا أن الخطر دائما يأتي من الشرق وأن بعض الموارد الاقتصادية اللازمة لمصر تأتي أيضا من الجنوب الشرقي، ناهيك أن هذا المحور الاستراتيجي الخطير كان الممر أو المعبر للتفاعل الحضاري والثقافي بين مصر وبين الجزيرة العربية وصولا للشام والعراق، بل إن بعض باحثي الأديان القديمة يذهبون إلى أن تقديس الأنثى بوجه عام انتقل من مصر إلى مكة ومحيطها، فصارت "إيزيس" هي "العزى" وكما كانت لدى مصر نوت وإيزيس ونفتيس كان لدى أهل الجزيرة العربية اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى!!

وفي هذا السياق التاريخي وخاصة مع ظهور المسيحية فإن دور مصر تواصل مع مثيله في الجزيرة العربية وخاصة شمالها وصولا إلى بادية الشام، وحدث تأثر كبير بما كان في مصر من جدل لاهوتي عميق وتمذهب عرب الجزيرة بأحد المذاهب المسيحية المصرية بعد مؤتمر نيقيا المسكوني في عام 325 ميلادية.. وفي هذا تفاصيل كثيرة وثرية للغاية، ثم إنه عندما ظهر الإسلام وانتشرت دعوته في شبه الجزيرة العربية وبعدها في العراق والشام ثم مصر والشمال الإفريقي، كان لمصر دور لا ينكر على صعد مختلفة فقهية وفلسفية وصوفية وأيضا حضارية وثقافية وعسكرية، ولن تكفي مساحة المقال للإطناب في هذا الجانب.

نحن إذن أمام معطيات جغرافية وتاريخية وحضارية وثقافية وأيضا سياسية قديمة ومعاصرة تقودنا إلى نتيجة لا ينبغي تجاهلها ولا المماحكة فيها، وهي أن أمن مصر وأمن المملكة والأمن العربي بوجه عام يتقوض إذا دقت الأسافين وتصاعد الافتراق بين العاصمتين أي بين الدولتين!

القضية إذن ليست ظرفا طارئا وخطرا محدقا من جماعات الإرهاب الإخواني والداعشي وكل من يعتنقون فهما خاطئا للدين ودوره في حياة المجتمع، وإنما القضية هي قضية ثوابت فرضها ومازال يفرضها المكان والزمان والوجود الإنساني بحد ذاته.

إنني أذهب مع الذين يذهبون بفهم ووعي إلى أن بقاء مصر وبقاء المملكة محافظتين على وحدة ترابهما الوطني وعلى تماسك مجتمعيهما الداخلي وعلى الاستمرار في التصدي للإرهاب وعلى الوقفات السياسية الحاسمة في وجه من أرادوا إسقاط مصر أولا، وكان من تجليات ذلك الموقف السياسي والدبلوماسي السعودي للراحل الأمير سعود الفيصل في باريس منذرا وبشراسة أي استهداف لحصار وضرب مصر بعد 30 يونيو، ثم التصدي لأطروحات باراك أوباما، وهو بقاء استدعى مزيدا من التهديدات والمخاطر لأن ما تم إفشاله لم يكن ضربا من ضروب نزوات دول عظمى، بل كان مخططا مرسوما ومبرمجا يتجه لتفتيت وتفكيك المنطقة وإعادة رسمها من جديد وفقا لما قرأناه وتابعناه عن سايكس بيكو القرن الحادي والعشرين، ولذلك فإن إدراك قيادتي البلدين لحجم الخطر واتساع وعمق التهديدات يعد النواة الصلبة لتطوير آليات الحفاظ على وجودنا كشعوب ودول.

ويبقى لدى كل الواعين بما يجري أمل لا بديل عن السعي لتحقيقه، وهو مد جسور التواصل بين النخب الفكرية والثقافية والاقتصادية في البلدين وفي بقية دول مجلس التعاون الخليجي، لنبني ما أسميه حوائط الصد الحضاري والثقافي والاقتصادي الداعمة لحوائط الصد العسكري والأمني التي ثبت أنها لا تكفي وحدها لمواجهة الخطر، ولأن الاختراقات الخطيرة للنواحي الأمنية والدفاعية يمكن مواجهتها بنشاط الأجهزة ويقظتها، أما الاختراقات الأخطر فهي التي تستهدف جوانب القوى الناعمة في المجتمع لضرب تماسكه وتدمير هويته وبث الوهن والضياع في إرادته.


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 أبريل 2016

No comments:

Post a Comment