Thursday 14 April 2016

عجبي !!





أكتب هذه السطور مساء الثلاثاء أول أمس، أي قبل أن تظهر أية معلومات قد تصدر عن اجتماع الرئيس مع مثقفين وغيرهم، وأبدأ بالعجب من موقف بعض بني جلدتي من الوطنيين ذوي الاتجاه القومي من ناصريين وغير ناصريين، وخاصة المقتنعين بمنهج وأفكار الراحل العزيز الدكتور عصمت سيف الدولة المفكر القومي رفيع القدر، ومصدر العجب عندي هو أن من يقدسون فكرة الوحدة العربية ويعتبرونها هدفا مبدئيا يعلو كل الأهداف ويتقدمها بحيث تذوب كل الحدود وتنتهي كل السيادات الإقليمية ويصبح الكل وطنا عربيا موحدا في دولة عربية واحدة، فإننا نتابعهم الآن وهم أكثر الأصوات عويلا على انتقال تبعية جزيرتين صغيرتين قاحلتين من دولة عربية إلى دولة أخرى.. ويعلو عويلهم لتتعاظم أقوى وأفصح النعرات الإقليمية، وكأن مصر تنازلت عن مقدساتها لعدو لا نقاش في عداوته وعدوانه!!

وما أفهمه هو أن القومي الوحدوي الأصيل يقاوم النزوعات الانفصالية عن وطنه الكبير ويعادي نشوء كيانات إقليمية جديدة تحت أية دعاوى، كقضية الساقية الحمراء ووادي الذهب مثلا، وفي الوقت نفسه لا فرق عنده أن تكون تلك البقعة العربية تابعة لهذه الدولة العربية أو تلك، مثلما لم يكن لديه أي مانع من أن تصبح مصر العظيمة جزءا من دولة هي الجمهورية العربية المتحدة التي اختفى منها اسما مصر وسوريا معا!، ولذلك أعجب من هذه المناحة التي هي من صميم المزايدة ومن صميم منهج الذين يتصيدون للرئيس السيسي ونظام الحكم الحالي، لا فرق بين إخواني مأفون وقومي موتور وماركسي مأزوم، أولئك الذين لا ينتظرون أن تتبين جوانب الأمر وما إذا كان أمر الجزيرتين محسوما بالوثائق والأدلة أم لا؟

وهنا أنتقل إلى ما أظنه من صميم موضوع الجزيرتين وغيرهما، وأبدأ بالاتفاق مع وجهة النظر التي تذهب إلى خطأ الحكومة في التوقيت وفي "التخديم" ــ إذا جاز اللفظ ــ على الحقيقة التي تملك جوانبها ابتداء من الوثائق وما يقوم مقامها وليس انتهاء باللجان والمباحثات التي أدت دورها في الوصول لما وصل إليه الأمر.. إذ ما الذي كان يمنع أن يتم التمهيد بالإعلان عن المباحثات وعن تشكيل لجان وعن مسارها وعن سيناريوهات النتائج التي قد تتوصل إليها، ثم ما الذي كان يمنع أيضا من دراسة سيناريوهات ردود الأفعال، والسبل التي سيلجأ إليها المترصدون للسيسي وللنظام والمتصيدون لأية فرصة حتى يقلبوا الحقائق إلى أباطيل للمتاجرة والتشهير وتسجيل الأبناط أملا في أن يؤدي ذلك إلى قصف عمر النظام والتعجيل لا قدر الله بسقوطه، وبصرف النظر عن الكارثة العظمى التي ستطال الجميع فيما لو حدث ذلك!

ولقد تردد كلام كثير عن التوقيت، ومنه أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت سحب قواتها من تيران، وأنها مع أطراف أخرى تريد أن يتحول المضيق إلى مضيق دولي ولن يتحقق ذلك ــ حسب ما يردده البعض ــ إلا إذا أصبح المضيق يمر بين شاطئين لدولتين وليس بين شاطئين من أرض دولة واحدة، وتردد كلام أيضا عن أن الاتفاقيات المصرية ــ الإسرائيلية تمنع مصر من الإقدام على أي عمل من شأنه تغيير معالم الجزيرتين كإنشاء جسر "كوبري" مثلا، ولذلك فإن انتقال الولاية أو عودة الجزيرتين لمالكهما الأصلي أو لمالك جديد لا يرتبط بمعاهدات مع الدولة العبرية ويجعل من إقامة الجسر أمرا متاحا.. وقيل كلام آخر.. وأيا كان ما قيل فإن وجود رجل مثل الأستاذ الدكتور مفيد شهاب في سياق يتصل بالجزيرتين أو بأية قضية دولية أخرى يجعل المرء مطمئنا تمام الاطمئنان من أنه لا تفريط بتاتا في حبة رمل مصرية!.. وكم كنت أتمنى أن يبادر الرجل بإبداء رأيه وأن ينقل للشعب المصري حقيقة الموضوع وأبعاده.

ثم إنني سأفترض جدلا تبعية الجزيرتين لمصر وهما خاضعتان لشروط الاتفاقية مع العدو الصهيوني، ثم أرادت مصر أن تناور مناورة دبلوماسية وسياسية كبرى لكي تستفيد الاستفادة القصوى من علاقاتها مع شقيقتها السعودية، ولتنمية سيناء ولإنعاش الحياة في المناطق التي قتل الإرهاب الحياة فيها كشرم الشيخ وغيرها، وكانت المناورة هي أن ننقل ملكية الجزيرتين للسعودية حتى نتملص من الاتفاقيات إياها وحتى نستطيع أن نصل لأهدافنا، وبعدها يحلّها الحلّال، أو لكل حادث حديث بالاتفاق مع المملكة.. وعلى ذلك ما الذي يمنع أن نجري هذه المناورة، طالما أن الأرض بقيت عربية في النهاية عربية مصرية أو عربية سعودية أو عربية أردنية يا دعاة العروبة والقومية والوحدة؟!

إنني كما لا أشك لحظة في وطنية وحرفية الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولي والمفاوض الجسور، الذي عرفناه مقاتلا شجاعا ضمن كتيبة المفاوضين الوطنيين الأجلاء في مسألة طابا، وكان منهم الدكاترة وحيد رأفت ويوسف أبو الحجاج ويونان لبيب رزق وغيرهم، فإنني لا أشك أيضا في وطنية وعلم رجل كالدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، وهو من أئمة الاتجاه القومي الوحدوي، ومع ذلك عندما استلزم الأمر قولا علميا لم يتردد الرجل وأكد أن الجزيرتين تعودان للمملكة السعودية..

ثم إن مفارقة حول الموضوع نفسه حدثت معي منذ ثلاثة أيام، إذ تلقيت مهاتفة من لندن حيث يقيم الصديق الأستاذ أمين الغفاري وهو معروف بقوميته وناصريته وقبل ذلك وطنيته للقاصي والداني، ودفع الثمن من حريته مرتين في سجن طويل، ووجدته يؤكد لي أنه وكل من كانوا في عملية التوجيه السياسي بمنظمة الشباب والمعاهد الاشتراكية في الستينيات كانوا يسمعون ويرددون معلومة أن تيران وصنافير جزيرتان سعوديتان وضعتهما المملكة في عهدة مصر لظروف تتصل بالصراع العربي الصهيوني.

وعلى أي الأحوال ومن أرضية الانتماء القومي الوحدوي مرحبا بالتنمية المرتقبة في سيناء الغالية.. مرحبا بتدفق الأخوة مواطني المملكة والمقيمين فيها إلى أرض مصر عبر الجسر المرتقب.. مرحبا بآلاف فرص العمل.. وآلاف المتاجر وغرف الفنادق.. مرحبا بالخير ولا فرق عندي شخصيا من أن يحدث كل ذلك والجزيرتان الصغيرتان الفاصلتان اللتان ترتكز عليهما قواعد الكوبري سعوديتان أو مصريتان أو يمنيتان فالكل عربي.
                        

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 أبريل 2016

No comments:

Post a Comment