Wednesday 6 April 2016

هروب.. وهروب!!


 
صورة من شوارع القاهرة

كان "نقب" الجدار هو الطريقة الشائعة لسرقة دور الفلاحين في زمان مضي.. تستخدمه العصابات "المناسر"، مستغلة أن معظم الجدران إن لم يكن كلها مبنية من مداميك الطوب اللبن أو النيئ أو الأخضر والملاط "المونة" بينها من الطين هي الأخرى، وعادة ما كانت المسافة من سطح الأرض إلى عشرة مداميك في الجدار تتعرض لنشع المياه الجوفية، الذي يساعد على تفتيت الطوب.. ولذا كان سهلا أن يعمد الحرامي إلى خلع طوب المداميك بأية آلة صلبة ولا يقاومه شيء حتى عرض الجدار، الذي كان أقصاه "طوبتين ونصف"، وعندما يتم "نقب الجدار وتتسع الفتحة يفلت الحرامي للداخل عارفا طريقه إلى زريبة البهائم أو إلى وسط الدار، حيث تخزن حلل الطهو النحاسية، فإذا لم يجد شيئا عمد إلى الطيور مركزا على البط إذا وجد، لأنه أغلى ثمنا وأكثر لحما!!.. ولم يكن الحرامية يستطيعون الاتجاه من المساحة المنقوبة إلى الزريبة ووسط الدار إلا إذا كانوا قد جمعوا المعلومات بواسطة من يسميهم الفلاحون "الدسيسة"، أي الجاسوس المندس، وهو إما أن يكون بائعا جائلا أو مشتريا جائلا.. الأول يبيع السكسونيا وقطع القماش أو الصابون والفلايات والعطور الرخيصة، والثاني يشتري البيض ورسمال الحمام "زبل"، والنحاس القديم، وربما الذهب والفضة الكسر!! وإما أن يكون الدسيسة هو السقا الذي يحمل إذنا دائما بالدخول إلى الأزيار "جمع زير"، المنصوبة عادة خلف باب الدار، أو هو في أحيان نادرة الشحات "المتسول"، الذي يقف على الأبواب وقتا طويلا وفي أحيان أكثر ندرة قارئ أو قارئة "الراتب"، أي السورة القرآنية التي تتلى كل صباح بعد أن تفرش حصيرة الصلاة فوق المصطبة القريبة بدورها من وسط الدار.. والزريبة!

عندي إحساس أحاول الهروب منه بشدة بأن مصر يتوالى نقب جدرانها من مناسر تتعدد أصولها وتتنوع تخصصاتها مثلما هي مناسر الإجرام التقليدية ـ "جمع منسر، أي عش النسر وهو اسم كان يطلق على عصابات السرقة والنهب والخطف، ولكل منسر شيخ منسر مرهوب الجانب حتى من الحكومة آنذاك" ـ والمصيبة أن جدران المحروسة تعرضت للتآكل والذوبان بأبشع مما كانت تتعرض له جدران الطوب النيئ إياه!.. وما تتعرض له المحروسة لم يتم ولن يستكمل إلا بوجود "الدسيسة"، أولئك الذين لا يتورعون الآن عن الظهور علنا وأداء مهمتهم جهارا نهارا وعلى عينك يا تاجر، وليس بالاستتار والتسلل كما كان حال الأسلاف في جرائم سرقة البهايم والنحاس والفراخ!!

لن أستكمل لأنني كما أسلفت أحاول الهروب من هذا الإحساس الذي له براهين عملية أسعى لتجميعها وقراءتها وفهمها ونقدها، حتى إذا واتتني شجاعة الكتابة عنها كنت قادرا على تحمل هجمات المناسر وطعنات الدسائس، وهنا أتجه لصفحة أخرى من صفحات الأعماق الاجتماعية، التي أزعم معايشتها عن قرب، إذ كنت حاضرا تلك اللحظات المفرطة في الكوميديا والجدية في آن واحد، عندما تأخر "علي أبو مصماص" في الحمام الذي كان يقع على يسار غرفة الجلوس، وله باب خشبي له شراعة زجاجية ونافذة تطل من الدور الرابع على ورش إحدى الشركات الهندسية المشهورة، وعلى النافذة أربعة أسياخ حديدية تحول دون أي عضو منسر من الدخول إذا تسلق مواسير المجاري الواصلة من الأرض حتى آخر دور ثم السطوح!

نقرات خفيفة متباعدة وعلي يتنحنح دليل على أنه سمع، ثم تقاربت النقرات ثم انقلبت إلى خبط ورزع بعد أن مضى عليه داخل المرحاض حوالي ساعة، ثم كتف قوية فسخت الكالون والشنكل معا وإذا بعلي أبو مصماص واقف على قاعدة المرحاض المرتفعة "الإفرنجي" يحاول ثني حديد الشباك للقفز منه، وبعد جدل تم إخراجه ليحكي أنه احتار كيف يستخدمه، فجلس القرفصاء أعلاه وحاول الاستنجاء فبدأ يفتح كل ما يصادفه من صنابير، ثم كان أن حرك يد السيفون وإذا بطوفان انخلع له قلبه، فظن أن كارثة حدثت فقرر أن يقفز بلا عودة!

وكانت الجدية أولا ثم الضحك ثم الاستغراق في الحكاوي الطريفة التي عاشها، ومنها أن الناس في بعض أجزاء سيناء كانوا يشربون من بئر ماء تسمى "بئر مبعوق"، وهنا تنطق القاف جيما قاهرية أو "جافا" فارسية ومن حوله يتجمعون لمناقشة أحوالهم وللبيع والشراء وللتقاضي، وذات مرة اتهم أحد كبار قضاة "بير مبعوج" مع صديق له من كبار القوم أيضا بجريمة زراعة نباتات غير مشروعة، وتم القبض على حضرة القاضي، فيما هرب صديقه إلى قمم الجبال "صعانين"، وتم ترحيل الأول إلى معتقل في الصحراء الغربية، وذات مرة جلس يندب حظه بشعر بدوي: "من بعد ما كنت في دار الإمارة.. أنا الحين داخل السجن مسكين.. عتبي على اللي يملكون الوزارة.. لا عتبي على اللي ساكنين الصعانين"، في غمز مباشر لصديقه ساكن صعانين "قمم" الجبال هربا من مصيره.. ويرد الصديق الهارب: "الحاج أكل البيض كبر جعابه "مؤخرته".. يقول الناس ما عندهم "ذوق" ثم شطر لا أذكره.. ويستكمل: ".. ما هي طلايب ناس ع بير مبعوق.. دا اللي شرد ما يعيبه شراده.. خير من اللي في المرس مثل مرزوق"، ومعنى الكلام أن صاحب السجن ثقلت مؤخرته وزاد وزنه من كثرة أكل البيض بالسجن، وأن الهارب لا يعيبه هروبه وحريته لأنه أفضل من المربوط في "المرس" ـ أي الحبل ـ مثل الكلب.. لأنهم يسمون الكلب مرزوق، وهو اسم واضح الدلالة!

ومضى علي أبو مصماص صديقي عليه رحمة الله ابن القبيلة السيناوية الوطنية يحكي كيف هرب الذي في المعتقل بطريقة عبقرية، كان السبب من ورائها معايرة ساكن الصعانين له بأنه مربوط في حبال السجن مثل الكلب.
وربما جاءت فرصة لاستكمال قصة الهروب.. هروب صاحبنا وهروبي معا!


نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 أبريل 2016

No comments:

Post a Comment