Wednesday 13 April 2016

درس من نيويورك


 
صورة لتظاهرات الحركة الطلابية في السبعينات

أذهب إلى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الدور الاجتماعي والثقافي للرأسمالية وبين القضية التي تفرض نفسها بإلحاح على الحاضر المصري والعربي والإسلامي، وهي قضية تجديد الخطاب الدعوي الذي اشتهر باسم "الخطاب الديني"! وقبل أن أفصل في ذلك المجمل أود الإشارة إلى خبر تناقلته بعض وكالات الأنباء ويقول ما نصه نقلا عن اليوم السابع يوم 4 إبريل 2016: "كتبت مجموعة من أكثر من 40 مليونيراً في ولاية نيويورك خطاباً إلى حاكم الولاية الديمقراطي أندرو كومو وكبار نواب الكونجرس، دعتهم فيه إلى بحث زيادة الضرائب على السكان الأكثر ثراء في الولاية للمساعدة في مكافحة الفقر وإعادة بناء البنية التحتية". ويقترح الخطاب فرض ضرائب جديدة أعلى بنسبة واحد بالمائة على أثرياء الولاية. وأضاف الخطاب أنه يتعين توفير إيرادات إضافية لمعالجة فقر الأطفال والتشرد والجسور المتهالكة والأنفاق وخطوط المياه والطرق، وتابع الخطاب "كسكان نيويورك الذين ساهموا واستفادوا من الحيوية الاقتصادية للولاية لدينا القدرة والمسؤولية على تحمل نصيبنا العادل، ونستطيع تحمل الضرائب الحالية وبإمكاننا دفع أكثر من ذلك"، ومن بين الموقعين على الخطاب أبيجايل ديزني وليو هندري وستيفن روكفلر.. ثم يستطرد الخبر: "يجرى العمل على خطة الضرائب المعروفة باسم خطة ضريبة الـ1% بالاشتراك مع معهد السياسة المالية، وهو مركز بحثي اقتصادي ذو توجه يساري". وقال هندري، الشريك الإداري لشركة إنترميديا في بيان مصاحب للرسالة: "كرجل أعمال وفاعل خير ومواطن من ولاية نيويورك، أعتقد أننا نحتاج الاستثمار في شعبنا وبنيتنا التحتية.. خطة ضريبة الواحد بالمائة تجعل من الممكن تنفيذ هذه الاستثمارات.. وتتطلب من أشخاص مثلي مواصلة دفع ضرائب أكبر، كما ينبغي علينا.. خطة واحد بالمائة ستخلق معدلات ضرائب أعلى على أولئك الذين يجنون 665 ألف دولار أو أكثر".

انتهى الخبر، والعهدة على الوكالات واليوم السابع، ولن تنتهي التساؤلات الاستفهامية والاستنكارية والتقريرية عن دور ومواقف الرأسمالية المصرية من كل قضايا الوطن، وفي مقدمتها القضايا الاجتماعية "فقر الأطفال والتشرد".. وقضايا الخدمات الأساسية أو التحتية "الجسور المتهالكة والأنفاق وخطوط المياه والطرق"! مثلما هو اهتمام أغنياء نيويورك! وهنا أنتقل إلى القضية الأساسية التي أربط فيها بين هذا الدور الرأسمالي المنشود وبين تجديد الخطاب الدعوي "الديني"، لأن نقطة البدء عندي هي أن الخطاب الدعوي جزء أو فرع من الخطاب الثقافي، إذ لا بد من التمييز بين الخطاب الديني الذي هو من لدن الخالق- جل وعلا- في كتبه السماوية التي عرفناها من صحف إبراهيم وموسى إلى الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، وبين الخطاب الدعوي الذي يتكفل به الدعاة في كل دين- حسب ما استقر لدى أتباعه ومؤسساته من تراتبية في هرم الدعاة- ومعلوم أن الإسلام لا يعرف هذه التراتبية الهرمية وليس فيه رجال دين بل فيه من تفقَّه في الدين وصار عالما تتوافر له الشروط العلمية وليس الإكليروسية.

ولو اهتمت الرأسمالية المصرية بدورها الاجتماعي، وسعت إليه، وطالبت به، وأصرت على أن تتصدى مثلا لمشكلة أطفال الشوارع ودور الأيتام التي لا يمر شهر أو شهران إلا وتفوح رائحة فضيحة مأساوية من نوع استغلال اليتامى في التسول والدعارة وما على غرار ذلك، وأيضاً تتصدى للأزمات التمويلية التي تحاصر المؤسسات التعليمية والبحثية، خاصة المكتبات والمعامل والملاعب والأنشطة الطلابية المتصلة بتجلية الإبداع الأدبي والفني، وفي هذا ما زلت أذكر أن جانباً رئيسياً من جوانب تأجيل انقضاض الجماعات المتأسلمة على الجامعات قبيل مطلع السبعينيات هو وجود الأنشطة الفنية والأدبية والرحلات، وأذكر، فيما كنت آنذاك رئيساً لاتحاد طلاب الآداب، وبعدها ممثلاً للدراسات العليا، أن كان في الاتحاد فرق للموسيقى والتمثيل المسرحي وجماعات للشعر والقصة والصحافة وغيرها.

وكما كان بديعاً آنذاك أن يقف الراحل الجميل عمار الشريعي ومعه مجموعة من فريق الموسيقى بالقرب من نافورة مدخل الكلية في الصباح المبكر، وبديعاً أيضاً أن المسرح لا يتوقف عن النشاط، وفيه تخرجت مواهب عظيمة، أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر المخرجين الكبيرين عصام السيد ومحسن حلمي والممثلين فاروق الفيشاوي وسامي مغاوري ومحمود حميدة وغيرهم، وعندما قرر الحكم آنذاك- وكان السادات رئيساً- الاستعانة بالجماعات الإسلامية لضرب حركة اليسار الناصري والماركسي، تم تقويض هذا النشاط الكبير وبدأت الجامعة تجف أوراق مواهبها الواعدة في تلك المجالات، ناهيك عن مبادرة الجماعات إياها، مدعومة من النظام، بالهجوم على التمثيل والشعر والأدب والاختلاط والجلوس في الكافتيريا وافتراش "النجيلة"، باعتبار كل ذلك فسقاً وفجوراً، ثم انتقل الهجوم إلى الفعل البدني بالجنازير والمطاوي والقبضات الحديدية.. وهنا أجد أن اتجاه الرأسمالية المصرية لتبني إنشاء مسارح وملاعب وتمويل فرق التمثيل والموسيقى وجماعات الإبداع بالجامعة هو إحدى السبل الرئيسية لتجفيف منابع التطرف الإرهابي، ولتجديد الخطاب الدعوي في آنٍ واحد.

ولعل ما أقدم عليه أثرياء نيويورك يكون هادياً لأثرياء المحروسة، خاصة أن بلدنا يستحق منا الكثير، ولو بحكم أن جذورنا تمتد فيه لآلاف السنين عمقاً، فيما أثرياء نيويورك لن تمتد جذورهم لأكثر من مائتين وخمسين سنة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 13 أبريل 2016.

لينك المقال:
http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=501170&IssueID=3930

No comments:

Post a Comment