Thursday 21 July 2016

تقويض نظام الحكم الحالي




ليست فتنة طائفية.. وليست احتقانات بين أتباع شرائع دينية مختلفة، ولكنها جريمة جنائية تتجاوز الجرائم التقليدية، من نشل وسرقة ونصب وقتل إلى التخريب المتعمد للوطن وخيانة أمنه القومي وتمزيق نسيجه الاجتماعي والحضاري، للحيلولة دون تماسكه وتوازنه وقوته ولتدمير أي درجة تعافٍ لجهاز مناعته المقاوم للإرهاب وللتفتيت وللتفكيك، حتى يتمكن الإرهاب منه ويفتك الأعداء به، وأيضا لمحاصرة وإجهاض أية إنجازات وانطلاقات يحاول نظام الحكم الوطني تحقيقها!

وسيقولون: كل هذا؟!.. وأقول: نعم كل هذا هو التوصيف المختصر لما يحدث في بعض مناطق مصر، وخاصة المنيا في الصعيد، عندما يقدم المجرمون التخريبيون الجهلة الخونة على الاعتداء على المواطنين المسيحيين المصريين وعلى الكنائس، وهو أمر يتكرر وتتكرر معه ردود الأفعال البليدة المتغابية من الذين يفترض أنهم المسؤولون عن منع واستئصال هذا النوع من أنواع الجرائم!

إن كثيرين وأنا منهم لا نعرف مصير المتهمين في جرائم تنتمي لهذا السياق وآخرها ما أقمنا من حوله الدنيا، وهو الاعتداء على السيدة المصرية المسيحية وتمزيق ملابسها وتعريتها، ولا نعرف ماذا تم مع المسؤولين ومنهم المحافظ بتاع البيضة المقدسة إياها، وما نعرفه هو أن نستمر دون ملل ولا كلل ولا خوف باتجاه العمل على استئصال الخيانة العظمى للوطن ممثلة في استمرار هذه الجرائم، وهنا تطل قضية تجديد الخطاب الذي أصر على أنه "دعوي" وليس "ديني"، رغم أنها صارت أقرب إلى الأسطوانة المشروخة التي تدور وقد تآكلت أسطرها فصارت "خروشة" مزعجة!

إن ما يجري في سياق تلك الجريمة يشير إلى حتمية التعامل مع الخطاب الدعوي باعتباره وصفة دوائية تكتب لكل حالة على حدة، مراعية تاريخ الحالة ودرجة وعيها وحالتها الصحية العامة وبيئتها الاجتماعية وطبيعة نشاطها والمحيطين بها!.. إذ لا يعقل أن يكون الخطاب الدعوي الموجه للمتعلمين ساكني المدن المرتاحين معيشيا المطلعين على الصحافة والمتابعين للتلفزيون والراديو ولديهم الرغبة والقدرة على شراء الكتب والدخول على الشبكة المعلوماتية، هو نفسه الخطاب الموجه للأميين الجهلة من سكان أعماق الريف والبوادي الذين لا يعرفون حتى أن يتوضأوا وأن يقرأوا الفاتحة وهلم جرا وصولا إلى معرفة اليد اليمنى من اليد اليسرى.. وأقسم أنني لا أبالغ إذ لازلت أذكر التدريب الأول في معسكر "سدمنت الجبل" فيوم، عندما شاء حظي أن يتم تجنيدي في دفعة مختلطة، تضم مواطنين من مختلف الفئات ودرجات التعليم، وكنت آنذاك أدرس الماجستير في قسم التاريخ.. وكان عاشور زميلي في مركز التدريب بائعا جائلا من ريف إحدى محافظات الصعيد، وعبثا كان صف الضابط "الانباشي" يحاول إفهامه أن يبدأ الخطو بالخطوة المعتادة محركا يده اليمنى مع رجله اليسرى، ولم يكن ثمة بد من وضع "زلطة" في كفه اليمنى ليقبض عليها ويعرف يمناه من يسراه، فما بالك عندما جاء درس فك وتركيب البندقية ليصير "السونكي" "خنجر" ويصير "الناشنكاه" الأمامي والخلفي.. "فاشنكاه".. إنني لا أسخر ولا أتهكم ولكنني أقرر واقعا معاشا لا ينكر وجوده إلا مغالط مغرض!

الخطاب الدعوي لابد أن تتعدد مستوياته وتتدرج مفاهيمه، وإذا كان الزمن وتطوراته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية قد أدى إلى جعل التفقه في الدين معضلة أدت إلى أن يجلس أحدهم منجعصا يتيه بحفظه للمتون والحواشي، ويتحدى بأن يستطيع أي جهبذ خارج دائرته أن يفهم ــ مجرد فهم ــ بعض ما كتبه سلف بعد تابعي التابعين في الأصول أو التوحيد أو غيرهما، فإن الزمن نفسه قد تكفل بكشف صدق الرسالة وصاحبها وصحابته صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم عندما قالوا إنه يُسر وتمنوا إيمانا بسيطا كإيمان العجائز، ولم يكونوا كهنوتا يرى أن اللاهوت لا يصبح لاهوتا إذا استطاع الناس سبر أغواره أي اكتشاف أعماقه!!

المحاسبة في مسألة الوعي الإيماني للناس لابد أن تبدأ من تحت.. من عند الناس في أعماق الصعيد وبحري وشرقا وغربا، ولابد أن تخترع وسيلة لوضع جرعات الوعي الإيماني في أغلفة دعوية تتجاوز الواقفين على المنابر والجالسين بجوار الأعمدة، إلى برامج الإعلام وإلى برامج الثقافة الجماهيرية وإلى كل ما من شأنه التواصل مع خلق الله في أماكن وجودهم!

لقد تحولت رواسب التعصب والفهم الخاطئ للإسلام وللإيمان إلى كتل صماء أقوى من الخرسانة المسلحة، وصار التعالي والتكبر والعداء لمن هو منتمٍ لشريعة مختلفة سلوكا طبيعيا يمارسه الجهلة والشمحطجية والخارجون على القانون وكل الذين يعصون الله ويخالفون تعاليم دينهم آناء الليل وأطراف النهار!، ولا يتذكرون أنهم مسلمون ولا يفطنون لإرضاء ربهم إلا عندما يعمدون لإيذاء مسيحي أو إهانته أو السخرية منه ويشوشرون على طقس ديني مسيحي ويعتدون على دار عبادة!، ولذلك قيل وهو قول حق إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. ومعناه أن من لم يرتدع عن فعل الجريمة وارتكاب المخالفة بالوعظ والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة، فإنه يتعين ردعه بالعقاب القانوني!، وعند ذلك يتساءل المرء لماذا لا تغلظ عقوبة الاعتداء على دار عبادة أو على مواطن بسبب عقيدته أو مذهبه وطائفته تغليطا قاسيا، يصل إلى حد الإعدام إذا اقترن التحريض على ذلك أو فعله بوقوع جريمة قتل!، ثم تكون العقوبة بالمؤبد للمحرض والفاعل معا إذا أدت إلى إصابات وتخريب وإحداث فوضى وفزع!.. وهنا ربما لن نعدم أحد أولئك المنجعصين من محتكري التفقه وهو يفتي بأن لا يقتل مسلم في غير مسلم، كما لا يقتل حر في عبد!

لا تتركوا أمر الخطاب الدعوي وشأن الوعي الإيماني بين يدي وعقول الذين يعتبرون وعورة فهم الفقه وأصول الدين وغيرهما أمرا محمودا لا يحق لأحد غيرهم أن يتحدث فيه.
                          
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 21 يوليو 2016.

No comments:

Post a Comment