Wednesday 27 July 2016

دعبل الخزاعي!




على قدر "علامي" أي تعليمي، قرأت في فلسفة التاريخ، بعد أن نلت درجة جامعية، وسعيت لما فوقها في قسم التاريخ بكلية الآداب، وعرفت شيئا عن المادية التاريخية، وعن التحدي والاستجابة، وعن المثالية، وعن الصدفة، إلى أن أدركت أن ما قرأته وتعلمته بقى قاصرا بعدما قرأت الصفحة الكاملة التي كتبها في "المصري اليوم" الدكتور مصطفى حجازي بعنوان "ستون سنة"، وأصررت على أن أكمل حوالي 170 سنتيمترا يحتوي كل سنتي على ثلاثة أسطر وكل سطر على ما بين سبع وثماني كلمات، عدا العناوين والصور! أي ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة كلمة ببنط مجهد للعين!

اكتشفت فلسفة جديدة للتاريخ، هي الفلسفة "الدعبلية" أو "الخزاعية"، نسبة إلى دعبل الخزاعي الشاعر العربي المشهور الذي كان في رحلة يصاحبه فيها أبو نواس وأبو العتاهية، ومرت عليهم ثلاث نسوة ترتدي الأولى ثوبا أبيض فأنشد فيها أبو العتاهية ما أنشده، ثم أنشد أبو نواس ما أنشده في صاحبة الثوب الأحمر، أما دعبل فقد أنشد ما يلي في صاحبة الثوب الأسود:

تبدى في السواد فقلت بدرا تجلى في الظلام على العبادِ
وقلت له عبرت ولم تسلم وأشمتّ الحسود مع الأعادي
تبارك من كسا خديك وردا مدى الأيام بلا نفاد
فقال نعم كساني الله حسنا ويخلق ما يشاء بلا عناد
فثوبك مثل شعرك مثل حظي سواد في سواد في سواد

هكذا هي الستون عاما من حياة المحروسة الغالية عند الدكتور.. سواد في سواد في سواد، بعدها وجدت الإمام عليّ- كرم الله وجهه- يتحدث بقلم الدكتور ليؤسس بقية الفلسفة، فإذا بالمنقول يأتي مجتزأ؛ إذ قال الإمام: "استأثر عثمان فأساء الأثر وجزعتم فأسأتم الجزع ولله حكم واقع في المستأثر والجازع"، وفي شروحات "نهج البلاغة" مذهب آخر في تفسير قول الإمام غير الذي ذهب إليه الدكتور بعد أن حذف جزءا من نص تاريخي- مقدس عند كثيرين- دون أن يشير إلى الحذف، إذ يقول الدكتور إن الجزع كان على الخطأ بقتل عثمان، أما الشارحون لنهج البلاغة فيقولون- عبر براهين عديدة- إن قصد الإمام هو لوم من جزعوا لقتل من أساء الأثرة، إذ لا يجوز جزع عليه.. ثم إن الأهم في السياق الذي نحن بصدده هو إحالة الإمام الأمر إلى الله ليحكم بين هؤلاء وهؤلاء، وليس لأحد من البشر أن يتدخل في الحتمية الإلهية!

بعدها ذهبت إلى الموسوعة البريطانية، وهي المرجع "المحمول" الذي لا يغادرني في سفري فيما أنا بعيد عن أرفف مكتبتي، لأبحث عن معنى الفاشية وتاريخها ونماذجها، فلم أجد في الأسطوانة المدمجة التي تحمل طبعة الموسوعة لسنة 2011 سطرا واحدا في مادة "الفاشية" ولا في مادة "جمال عبدالناصر ونظامه" يشير إلى ارتباط أو تشابه بين ناصر ونظامه وبين الفاشية، بل وجدت إشارة واضحة وبالاسم لمعمر القذافي وصدام حسين.. وللعلم فإن المادة الموجودة في الموسوعة البريطانية عن الفاشية والنازية لم تترك أمرا يتصل بهما إلا وذكرته وبإسهاب واضح!

بعدها اتجهت لمناهج البحث في علم التاريخ وفلسفته، لأبحث عن مدى جواز استخدام البلاغة والبيان والبديع والوشي اللفظي بالغ الأناقة والشياكة من قبيل "نخاع الإنسانية" و"دهاليز جدل الساسة" و"الأثرة وسوء الأثرة" وغيرها من المحسنات البديعية الجبارة التي لا ينكرها على الدكتور إلا من فقد حاسة التذوق الفني للتركيبات اللغوية، ومن سعى ليحرم على الموهوبين حق نحت مصطلحات تخصهم مثل "مؤسطرا" التي تعني الأسطورة قالبا للواقع!

وفي مناهج البحث لم أجد سندا للتفسير النفسي للأحداث، كأن يتم الربط بين "الترقي والتشفي" و"سيف الانتقام المبطن وبالرغبة في شيوع القهر" إلى آخر سبل البحث في النوايا وتفسير المواقف التي لجأ إليها صاحب الفلسفة الدعبلية في تفسير التاريخ.. فلسفة السواد في سواد في سواد!

وفي ظني أنه لو كان الدكتور حجازي- وهو يتفضل مشكورا للتصدي لفلسفة تاريخ مصر- قد حرص على أن يمتلك أولا أدوات المؤرخ ومناهج البحث في علم التاريخ، وعرف أن الكتابة العلمية في التاريخ تختلف تماما عن كتابة الانطباعات وإصدار الأحكام القيمية، لأدرك أن قراءة الظاهرة التاريخية كما هي لا تتيح مجالا لمن يحاول "لي" وتطويع المادة التاريخية لكي يثبت وجهة نظره الذاتية، ولأنه لم يفعل ذلك فلم يكن مسلحا بما يتعين على المؤرخ حيازته وجدناه يكرر- وفي فقرات متعددة- الوقوع في المتناقضات الحادة.. فهو يتحدث ضمن ما يتحدث عن جمال عبدالناصر: "فهو- أي جمال- ابن تلك اللحظة من التاريخ شأنه شأن نهرو وتيتو وبعض آخر من قادة التحرر الوطني.. استطاع أن يعي طبيعتها وتفردها وقدر فرصتها ومن ثم انتمى إليها واستثمرها.. فقبل أن ينتصف العام أظهر جمال أمارات زعامته في تأميم قناة السويس، في تحدٍ للعالم استنهض في المصريين طاقة التحدي بعد ظل خنوع دام قرونا، واستفز فيهم حلم التنمية المتسارع".. إلى آخره.. ويستكمل، وأرجو من القارئ أن يدقق معي: "ثم ما لبث- أي عبدالناصر- أن شرعن منطق التنازل الطوعي عن حق الحكم وعن دولة الشعب في مقابل مشروع سلطة الحاكم حين برهن جمال عبدالناصر عن انتماء حلمه لعصره.. وعن جديته في النهوض بمصر.. وعمدت زعامته بانتصار سياسي في حرب السويس، ثم بقبول دولي لم يأت من فراغ، ولكن أتى من قدرته على وضع مصر- حتى وإن كانت مصر مشروعه وحلم زعامته- في موقعها المستحق لتقود في عالمها.. فكانت شرعية زعامته بقدر ما استطاع أن يوظف قدرات مصر التي تراكمت في سنين تنوير سبقت وبقراءة واعية للتاريخ وللجيواستراتيجيا لتخلق زعامتها الواجبة والمستحقة".. حلو الكلام! حلو ثم إذ فجأة تتجه الفلسفة الدعبلية إلى أن كل ذلك.. "كل ذلك كان كفيلا بأن يعمي المغيبين عن حقوقهم أكثر ويلجم الواعين بخطورة مشروع الفرد الملهم وكارثية الاستبداد مهما كان مستنيرا أو جادا أو غير فاسد"! أي تناقض هذا الذي نقرأ؟ إذ هناك شرعية زعامة واجبة ومستحقة تقوم على قراءة واعية للتاريخ وللجيواستراتيجيا ووضع مصر في موقعها المستحق لتقود في عالمها.. وهناك في الوقت نفسه عمي مغيبون وملجومون واعون!

ولن أستطرد في اقتباس أمثلة أخرى لأنني أريد أن أصل إلى ما أظنه بيت القصيد، ألا وهو أن الأربعة آلاف كلمة هي رسالة موجهة للمصريين حتى لا يضحك عليهم عبدالفتاح السيسي ويجعلهم عميانا مغيبين وملجومين، حتى إن كانوا واعين!

الرسالة هي أن هناك الآن- مثلما كان هناك زمان- ثلاث سلطات، هي عند الدكتور حجازي سلطة قانونية لم يفصح عنها مثلما أفصح عنها في الخمسينيات، وأظنه- وفق استقراء السياق المكتوب- يشير إلى سلطة محمد مرسي وحزبه وجماعته ودستوره.. ثم سلطة أمر واقع هي سلطة الرئيس السيسي والجيش والمؤسسات الأخرى القائمة.. ثم سلطة شرعية غافلة عن عصمتها أو متنازلة عنها هي الشعب الذي أتم حلقات ثورته!

والرسالة هي أنه مهما كان الرئيس الحالي طاهرا وغير فاسد ومستقيما إلا أن الاستبداد والوكالة عن الشعب وغيرهما من الأوصاف التي ألصقها الدكتور حجازي بعبدالناصر ليست في صالح مصر ولا شعبها ولا وطنها العربي ولا عالميها الإسلامي والإفريقي!

هذا هو في ظني واعتقادي معا ما يخلص إليه فيلسوف التاريخ مصطفى حجازي الذي انتقل من الهندسة وإدارة الأزمات إلى التاريخ وفلسفته دون أن يعطي لنفسه فرصة لامتلاك أدوات المؤرخ أو يعرف مناهج البحث في علم التاريخ حتى لا يقع في الخطايا العلمية الفادحة التي وقع فيها ومما لا يقع فيه تلميذ قرأ كتابا واحدا في مناهج البحث التاريخي!

إن هناك ما يمكن أن نسميه متلازمة يوليو وعبدالناصر SYNDROME، تظهر أعراضها دوريا في يناير ويوليو وسبتمبر من كل عام، يعني في الشتاء والصيف والخريف على البعض، فترى بعضهم وقد أخذته نوبة هلفطة وشتائم واتهامات لثورة يوليو وعبدالناصر بمناسبة عيد ميلاده في 15 يناير، والثورة في 23 يوليو، ووفاته في 28 سبتمبر، والحمد لله أن الأعراض تختفي في بقية المناسبات التي لا يخلو شهر من شهور السنة منها، وكلها مرتبطة بالثورة وعبدالناصر!

وكنت وغيري من الذين يزعمون الوعي بأن يوليو وناصر ملك للأمة كلها بمن في ذلك خصومها، ندرك أنه من العبث الانشغال بالرد على المصابين بتلك المتلازمة المرضية، إلى أن نشر الدكتور حجازي ما نشر، وأخذته مأخذ الجد لأول وهلة، ثم اكتشفت أنها المتلازمة نفسها، غير أن ما يحزن هو أن نكتشف مدى هزال فكر ومنهج من كان مستشارا لرئيس الجمهورية وكان هناك من يريده رئيسا لمصر حتى إن عاد الضمير عليه هو وحده!
                              

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 يوليو 2016.

No comments:

Post a Comment