Thursday 14 July 2016

المحروسة من "بور فؤاد 1973" إلى "السمسار"




لست ناقدًا في مجال الأدب، ولست أيضًا من المنخرطين في الحركة الأدبية المصرية أحضر منتدياتها وأصاحب أقطابها من شعراء وقصاصين وروائيين ونقاد، وإن كانت لي علاقة ود مع بعضهم- بحكم الاهتمام بالعمل العام، وبحكم المهنة كصحفي مسؤول عن إدارة مكان يعمل به ويتعاون معه بعض المبدعين من تلك الفئة- ولذلك فأن أغامر وأكتب عن عمل روائي فتلك خطوة غير مأمونة العواقب، حيث لن أتمكن من معالجة الأمر معالجة نقدية من حيث البناء وتطور الشخصيات واللغة بمفرداتها ومدلولاتها والصور والأخيلة وما إلى هناك من فصيلة التركيبية والبنائية والوظيفية وغيرها مما لا أجيده!

أما عن المغامرة فمن ورائها الصدفة التي صارت تلعب دورًا في حياتنا العامة، وأيضًا الخاصة، وقد تأتي صدفة بعينها يستطيع العلم أن يفسر آليات دور الصدفة وكيف تكون فاعلة بغير ترتيب ظاهر.. فبالصدفة دُعيت من الصديقة الأستاذة الدكتورة جمال حسان استشارية الطب النفسي بالمملكة المتحدة- بريطانيا- وهي صديقة للأسرة منذ زمن أن كانت في طب عين شمس؛ لحضور مناقشة روايتها الجديدة "بور فؤاد 1973"، وكنت قد حضرت مناقشة رواية أخرى لها، وعند قبول الدعوة تطور الأمر إلى رغبة في أن أشارك مناقشة الرواية التي تتحدث عن حرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر 1973 بحكم أنني من المهتمين بالتاريخ والسياسة معًا، وقد كان وغامرت وذهبت لمكتبة مصر الجديدة وشاركت مع الأصدقاء الأساتذة محمد الشافعي، وشعبان يوسف، وبحضور جمع من القادة العسكريين العظام الأفذاذ الذين شاركوا في صنع الملحمة الوطنية العظمى آنذاك وعبر كل العصور، وكان بعضهم في جلسة المناقشة يتجاوز الثمانين ويتجاوز أيضا كل عاديات الزمن وعوادي العمر!

ومنذ أسابيع تلقيت من صديقي الأستاذ عمرو كمال حمودة، خبير البترول، وأستاذ الدراسات الاقتصادية، روايته الثانية "السمسار" وقرأتها واسترسلت بغير توقف أمام سيل متدفق من المعلومات التي شكلت ضفيرة متماسكة مع الوقائع ومع الخيال!

وقد كتب كل من الأستاذين الدكتورين نصار عبد الله وصلاح فضل عن رواية "السمسار" وهأنذا أجد إلحاحا داخليا على أن أنقل لقارئ الأهرام لقطة تعتمل في وجداني ولا سبيل لكتمانها.

لقد تحولت وقائع تاريخ الحقب من 1967 إلى 2011 إلى أدب مرويّ، وتجلت ملكات الإنسان في تضفير الواقع بالخيال، وفي إعادة بعث ما جرى ليمضي أمامنا حيا فاعلا متفاعلا مؤثرا على الصفحات في السطور وما بينها، وفي ظني أنه لو أدرك الفاعلون والمشاركون فيما جرى بميدان القتال أو بمستنقع الفساد والاستبداد أنهم إذا لم يدخلوا التاريخ عبر المؤرخين فيحتل الأولون قدس أقداسه ويرزح الآخرون في مزبلته، فإنهم سيدخلونه من باب الأدب الروائي، وربما الشعر الملحمي!

لقد عشت مع أبطال مصر في القوات المسلحة الوقائع الميكروسكوبية للقتال ضد العدو على خط المواجهة في القناة ومن خلف المواجهة داخل سيناء، وبرشاقة تشريحية يجيدها من درس التشريح في كلية الطب واحترف الغوص في النفس الإنسانية بحكم العمل كاستشاري للطب النفسي؛ استطاعت جمال حسان أن تجذب ملولا من عينتي لكي يمضي بكل تركيزه مع الأبطال المقاتلين، ومع المراكبية من أهل بورسعيد، ومع التفاعل الاجتماعي لشريحة الطبقة الوسطى ومع يوميات حرب الاستنزاف، ومع تجليات قانون "التحدي والاستجابة" التاريخي الذي أبدعه أرنولد توينبي واختار مصر العريقة نموذجا لصدق قانونه، ومع غارات العمق، وإغراق المدمرة إيلات، والمجموعة 39 قتال والبطل الفذ إبراهيم الرفاعي!

في "بور فؤاد 1973" رواية جمال حسان عن مشوار أخيها ضابط الصاعقة وقادته وزملائه وجنوده، كانت صياغة مصر المناضلة للخروج من ضيق الهزيمة إلى براح الانتصار، باذلة العرق والدم والأرواح متجلية بالشرف والإيثار والتضحية والعلم والتدريب والإبداع، وأعظم ما في النفس البشرية من قيم وسلوكيات.

وفي رواية "السمسار" لعمرو كمال حمودة كانت جرجرة مصر من تلابيبها للسقوط في مستنقع الأنانية والاستئثار والنهب والسرقة والفهلوة والعمالة والتحالف الإقليمي والدولي المصر على قهر المحروسة وعلى تفريغ وإجهاض مضامين ونتائج نصر أكتوبر العظيم وما سبقه من حرب وبطولات وجهد وعرق من الجيش ومن قطاعات الشعب المصري العريضة!

هل رأيتم حجم وعمق الصدفة... أن يجتمع عملان روائيان متميزان يعالجان مدى زمنيا متصلا- أي حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ثم الانفتاح والسرقة والنهب إلى ثورة 2011- وأن ينتمي الكاتبان الأدبيان لجيل واحد، والمفارقة المذهلة أن كليهما- أي الدكتورة جمال حسان والأستاذ عمرو كمال حمودة- ليسا من العاملين ولا المتخصصين في الأدب، فالأولى طبيبة وأستاذ طب نفسي تعمل في بريطانيا وتتنقل بينها وبين مصر، والثاني محاسب واقتصادي وخبير نفط ودراسات جدوى.. غير أن ما جمعهما في نظري، وأنا أعرف الاثنين، هو الاهتمام الجاد بشؤون الوطن، ومن أرضية وطنية أقرب إلى الانتماء لليسار المصري بمعناه العريض وليس الاصطلاحي.. ثم إن كليهما عاش المرحلة موضوع الروايتين وإن اختلفت زاوية الرؤية، حيث الدكتورة جمال أقرب إلى الرؤية الوطنية القومية الناصرية، والأستاذ عمرو أقرب إلى الرؤية الوطنية الماركسية، كلاهما وطني ومن أرضية الوطنية قبل الانتماء الأيديولوجي جاء الاقتراب من الهمّ الوطني ومن منحنى تاريخ الأمة في قممه الصاعدة "المقاومة- الحرب- الانتصار"، وفي قيعانه الهابطة "التفاوض- كامب ديفيد- الانفتاح- الفساد- الاستبداد"!

لقد عشت مع أبطال الروايتين، وشاهدت من تبقى حيًا من أبطال بور فؤاد 1973، وأزعم أنني عرفت بعض أبطال "السمسار"، إما مباشرة أو عن طريق جلسات مع المؤلف نفسه في وقت مضى، ولذلك ورغم أن الأستاذ عمرو حمودة لم يذكر الأسماء الحقيقية للأبطال الرئيسيين إلا أن الوقائع المعروف معظمها لكل من تابعوا مشهد مستنقع الاستبداد والفساد، وأيضا جلسوا مع المؤلف وصادقوه وعرفوا معاناته، تكشف عن حقيقة هؤلاء الأشخاص.. لأنني لا أدري هل يسمى الفاسد والخائن والمتواطئ والحرامي بطلا ولو حتى في عمل روائي؟!

لقد ألقى مؤلف "السمسار" الضوء على بعض الفروق النوعية بين حقب تاريخ مصر المعاصر، أي بعد يوليو 1952.. فمثلا كان "منتصر" المدني الذي استقطب للعمل في المخابرات مثقفا رفيع الثقافة يطلع على ثقافة الغرب ويتأثر بها ككتاب "فوشيه"، ونلحظ أن ميكيافيللي شخصيا يكاد يكون تلميذا بالبنطال القصير في مدرسة الانتهازية النفعية التي أبدعتها جوقة رموز المستنقع في رواية "السمسار"، وحقيقة لا أدري وأنا أكتب هذه السطور هل يمكن أن أرتكب مخالفة لأعراف الكتابة عن الأعمال الأدبية أو أرتكب أمرا يعاقب عليه القانون فيما لو أفصحت عما أنا متأكد من أنه الأسماء الحقيقية لبعض شخوص الرواية، على الأقل اسم نائب الرئيس الذي صار رئيسا، واسم رئيس المخابرات واسم وزير الدفاع وأسماء أخرى، بل إن لدي عبر حكايات المؤلف لي- سواء في منتجعه الريفي أو الساحلي أو بيته القاهري- ما أستطيع أن أقول إنه مفارقات فادحة لم تتطرق إليها الرواية، ومنها مثلا مفارقة أن السمسار "منتصر" البطل الرئيسي، مارس الاستغلال الفعلي ماليا لأقرب الناس إليه، وهو ابن شقيقته، ولم يتردد عن أن ينقل إلى ذلك الشاب اليافع آنذاك ثقافة الانتهازية، إذ أخذ يعلمه أن من يريد أن يحقق أهدافه عليه ألا ينظر أبدا إلى من هو الجالس على الكرسي إنما لا بد أن يبقى جاثما تحت أرجل الكرسي ذاته.. فالأصل هو عبادة الكرسي، وبالتبعية عبادة من يجلس عليه!

وهناك تفاصيل في الروايتين قد يراها البعض من المعنيين بالتأريخ- همزة على الألف الوسطى- للمرحلتين ناقصة، أو مختلفة عن مجريات الأحداث الفعلية، غير أن ذلك لا ينتقص من أهمية العملين اللذين ليسا كتبا في التاريخ، ولكنهما في المقام الأول والأخير إبداع أدبي رفيع المستوى فيه ضفيرة مكونة من التاريخ والاجتماع والعسكرية والاقتصاد وعلم النفس والجغرافيا الطبيعية والسكانية في قالب روائي لا أستطيع الخوض في تقنياته لأنني لست ناقدا ولا متخصصا في الدراسات الأدبية.

إنني لا أبالغ إذا قلت إن الروايتين وطبيعة ثقافة المؤلفين تنبئان أن ثمة نهوضا طالما انتظرناه في مضمار القوة الناعمة لمصر.
                            
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 يوليو 2016.

No comments:

Post a Comment