Thursday 7 July 2016

غربة.. واغتراب الخطاب الدعوي




أذكر أنني قرأت للصديق العزيز الدكتور علي مبروك، رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه بقدر ما قدم للإنسانية ولوطنه ولتلاميذه وأصدقائه وأسرته من خير، تفسيرًا للحديث المتواتر الذي معناه "جاء الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء"، هو أن المسلمين في صدر الإسلام عند بداية الدعوة كانوا غرباء في قومهم، ونتيجة لما كانوا يلاقونه من اضطهاد وعسف أبيح لهم أن يخبئوا إيمانهم في صدورهم وقلوبهم ويظهروا غيره، أي أن يتمسكوا بالمضمون والجوهر، وإن ظهر على شكلهم غير ذلك، ومع مرور الأزمان وصلنا في عصرنا الحالي إلى حالة مناقضة يبدو فيها الحرص بالظهور بمظهر إسلامي في الملبس والكلام وشكل اللحية وما إلى ذلك، فيما الصدور والقلوب جوفاء خاوية من أي مضمون إيماني يعصم المظهريين من الاستمرار في خداع أنفسهم وخديعة الناس، لأن الكارثة البشعة هي وقوع أصحاب اللحى الحاخامية والأنفس الفظة الغليظة، والأرواح الملحمة المظلمة في خطيئة التكبر والتعالي على خلق الله وتحديد مصائرهم.. هذا في الجنة وذاك في النار، وكأنهم اطلعوا على الغيب.. وكأنهم هم من يحددون مدى رحمة الله سبحانه وتعالى عما يصفون.

كان الإسلام غريبًا وكان المسجد - وكل الأرض للمؤمن مسجد - متواضعًا لا بذخ فيه ولا استعراض ولا إزعاج، يؤدي الناس صلواتهم في وقار وهدوء ويتواصون ويتراحمون، ثم عاد غريبًا إذ أصبحت صروح الخرسانة وتعشيقات الرخام وفاخر السجاد وأقوى المكيفات وأقوى الميكروفونات هي السائدة، فتداخلت الأصوات النكراء وعلا الصياح، وجرى الاشتباك بين مسجد سلفي وآخر شرعي، وثالث رسمي ورابع وخامس، وانتشرت زوايا الضرار في وقت كان كل من يخالف قوانين البناء ينشئ مسجدًا أو زاوية لحماية العمارة من الهدم والمخالفات ولسرقة المياه والتيار الكهربي، وتفشت خطب الجهل التي ركز فيها الجهلة المتعصبون على استنزال اللعنات على مخالفيهم في الدين أو المذهب، واستشرى الترويج للأفكار المغلوطة الموتورة، وصار ابن فلان وأبو علان وترتان مرجعًا يفوق كتاب الله وسنة نبيه عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم السلام!، ووصل الحال بكثرة كاثرة أن تعمد للذهاب لصلاة الجمعة متأخرة أو متخذة مكانًا خارجيًا قصيًا، بحيث لا تسمع ما تعلو به عقيرة الواقف على المنبر، الذي قد لا يستقيم لسانه بجملة واحدة صحيحة لغويًا، ولا بمعنى واحد متسق مع جوهر الدين في يسره وسماحته ومراعاته لظروف وأحوال خلق الله!، وإذا صار الأمر شاقًا مرهقًا لمصلٍ من المصلين تردد خوفًا أن يفعل ما أمره به دينه من أن من حقه أن يرد الإمام ويصحح له، سواء كان على المنبر أم واقفًا في المحراب، كما فعلت المرأة مع أمير المؤمنين عمر وهو يخطب متعرضًا لقضية المهور، فقامت المرأة لتذكره بالنص القرآني الذي لا يجيز الانتقاص من المهر، حتى وإن بلغ قنطارًا، فما كان من عمر إلا أن يستجيب بأن أصابت امرأة وأخطأ عمر.. وكما يفعل حافظ القرآن إذا أخطأ الإمام في آية أو نساها!

عندئذ ونحن في أيام عيد الفطر، ونعرف حجم المظهرية والسفه في الإنفاق، نتساءل ثانية وثالثة وإلى ما لا نهاية عن فحوى تجديد الخطاب الدعوي الذي يتحدثون عنه باسم الخطاب الديني، وهل التجديد متصل فقط بما يتم تدريسه في معاهد الأزهر وكلياته، وفي ساحات المساجد وأروقة الجمعيات التي ترفع لافتات الشريعة والسنة وغيرها، أم أن التجديد متصل أيضًا بالسلوك الإنساني، وخاصة في دور العبادة والجمعيات إياها؟! ولذلك فعندما قلت إن الخطاب الدعوي فرع عن خطاب أوسع وأشمل هو الخطاب الثقافي، كان أمام ناظري المسلك الإنساني لعامة الناس.

في هذا السياق أعيد الحديث عن قضية طالما لفتت أنظار المراقبين والمهمومين بحاضر أمتنا ومستقبلها، هي قضية خلو الحياة التعليمية في مراحل التعليم العام "الإعدادي والثانوي"، والتعليم الجامعي على الناحيتين "الأزهرية - والعامة" من أي برامج ثقافية، ويزداد الطين بللاً أو البلل طينًا في كل الكليات العملية من طب وهندسة وعلوم وحاسبات وطب بيطري وغيرها، ليكون أغلب المتجهين للتطرف والعنف الإرهابي باسم الدين من خريجي تلك الكليات، ليس الآن فقط، وإنما منذ زمن طويل نسبيًا، إذ لازلت أذكر ما نشر حول تخصصات ووظائف المتهمين، الذين تورطوا مع سيد قطب عام 1965، وفيهم كان متخصصون في الطاقة النووية وغيرها من التخصصات العلمية، بل إن رصدًا لقادة جماعة الإخوان المتهمين الآن، والقابعين وفق التحقيقات والأحكام القضائية في السجن، يكشف عن أن غالبيتهم العظمى من خريجي تلك الكليات وأساتذتها، وكم انتظرنا عندما طفوا على سطح حياتنا السياسية، منذ صالحهم أنور السادات وسمح لهم بالعودة وبإصدار مجلتهم، إلى أن كان ما كان، انتظرنا أن نجد برامج علمية وعملية عكف أولئك المتخصصون في الطب والصيدلة والهندسة والطب البيطري والعلوم وغيرها على إعدادها لإخراج الوطن من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، ولكننا فوجئنا أن الأطباء والمهندسين وغيرهم صاروا وعاظًا وكهنوتًا يحترف إرسال الرسائل الأسبوعية ويدبج الخطب المنبرية ويتكلم في الحلال والحرام والجائز والمكروه والمندوب وغيره، ولا يتطرق من قريب أو بعيد لصميم تخصصه الذي لو أجاده، وعكف على تطبيقاته لحل مشاكل المجتمع لكان ذلك أصوب ولكانوا ضمنوا بالفعل البقاء خمسة قرون في الحكم مثلما توعد خيرت الشاطر الأمة، خلال نقاش مع عبد الفتاح السيسي، إبان توليه وزارة الدفاع!

وهذا الذي عايناه وعانيناه مع الإخوان، نعاينه ونعانيه أيضًا مع المتسلفين الذين منهم أطباء ومهندسون وعلميون انشغلوا بشكل اللحية ومصير الشارب وطول القميص "الجلباب"، وطريقة ضرب المرأة وتأديبها ومصير المسيحيين، وأيضًا مصير مسلمين هم في نظرهم زنادقة وفسقة، عن أن يهتموا باكتشاف علاج لمرض متوطن، أو حل لتطبيل الأرض الزراعية، وهجوم البحر على الدلتا والصحراء على الوادي، وفي نظري فإن هذه المعاناة جزء لا يتجزأ من عودة الإسلام غريبًا إذ يتسع معنى الغربة ليصل إلى الاغتراب بالمعنى النفسي والاجتماعي.. الاغتراب عن واقع الأمة ومتغيرات العصر وأصول حضارتنا وثقافتنا المتنوعة الثرية بتعدد منابعها منذ ما قبل الأديان السماوية وليس قبل الإسلام فقط.

كل عيد وحضراتكم بخير.
                        
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يوليو 2016.

No comments:

Post a Comment