Wednesday 3 August 2016

هروب إلى طنطا




من حق القارئ الذي يتحمل عبء المتابعة وثقل المشاركة فيكتب معلقا ومعقبا بالاختلاف والاتفاق وأحيانا تكون مساهمته تفصيلا لما أراد الكاتب اختصاره أو توضيحا لما غمض أو تفنيدا لما تضمن مغالطة أو كان كله غلطا.. ثم إضافة قد تكون أكثر أهمية ورصانة مما كتب- من حقه- أن يطلع على بعض مكنونات من يكتب، لذا أقول إنني كنت أنتوي- وما زلت- الكتابة عن دور الفرد في التاريخ بين الكاريزما والبطولة وبين الدور التاريخي، والكتابة عن معايير أراها صحيحة، في تعتيم ومحاسبة مراحل وظواهر تاريخية في حياة البشرية ومسارات الدول والفرق بين حسابات بقالي التجزئة وحسابات التاريخ، وذلك كله متصل بما أسميته "متلازمة يوليو وعبد الناصر" Syndrome أي الحالة المتفاقمة التي تصيب البعض في مواسم بعينها، غير أنني- وقد أرهقت فعليا من هذه المباراة التي يلعب في مضمارها هواة أغلب الوقت- أستأذن في تأجيل الكتابة عما سبق وذكرته للكتابة عن أمور أطرقها بين حين وآخر وأجد فيها متعة ثبت أن كثيرين يجدونها أيضا في المضمار نفسه! مضمار ضفيرة الذكريات الذاتية مع الواقع المعاش!

كانت الصدمة حقيقية.. ترنحت منها لوقت طويل، إذ حصلت على الثانوية العامة أدبي من الأحمدية الثانوية في طنطا، وهي مع طنطا الثانوية كانتا العلامتين البارزتين في المدينة العجيبة.. وكانت الأحمدية- نسبة لسيدي أحمد البدوي فتى الفتيان الملثم سليل الدوحة النبوية الطاهرة- تحتل مساحة ضخمة تطل فيها على شارع عثمان باشا محمد وشارع المدارس، ثم من خلفها يفصلها شارع صغير عن مدرسة خاصة هي التوفيقية التي لم يكن يدخلها سوى الفاشلين ممن لم يحصلوا على مجموع يؤهلهم للثانوي العام الحكومي، ومن أمامها شارع صغير آخر يفصلها عن ملعبها الضخم الذي تتجاوز مساحته أربعة أفدنة، وكان يشهد أنشطة رياضية للهوكي وكرة القدم والطائرة والسلة والجمباز والجري والمصارعة وكمال الأجسام! وكان للأحمدية سور ممتد مرتفع ولكن ارتفاعه لم يمنع هواة الهروب "التزويغ"، وبلغة بعضنا آنذاك "التفليق"، إذ يقال فلّق بلام مشددة مفتوحة أي ركض هاربا، من تسلقه، وكان لها باب رئيسي حديدي يقف عليه حارس أسمر البشرة مبروم الشارب أبيض العمامة بلدي الجلباب وله قبضة فولاذية يقبض بها على "الضلفتين" الحديديتين فلا يستطيع الجن الأحمر ولا الأزرق حلحلة إصبع واحد منها.. وكان اسمه "عم فرج".. ومن الباب إلى ردهة قصيرة تؤدي يمينا إلى سلم من خمس درجات لردهة ممتدة فيها مكاتب الإدارة.. وفي المواجهة الباب المؤدي إلى الفناء الداخلي "الحوش" وهناك مبنى قديم وآخر جديد تتوزع فيهما الفصول من أولى إلى ثالثة، وكان التخصص من السنة الثانية إلى علمي وأدبي.. وفي الحوش كان المسجد وكان الكانتين ودورات المياه- مأوى المدخنين سرا- ومخازن المهمات والكتب.. ثم المساحة الواسعة للطابور الصباحي حيث نقف أضلاعا متوازية ومتقابلة، وهناك طبلية خشبية مرتفعة حوالي عشرين سنتيمترا مستطيلة يقف عليها الميكروفون ومن ورائه يتناوب قائد الطابور، وكان رائدا احتياطيا من المدرسين الذين درسوا في كلية ضباط الاحتياط، ثم وزعوا على المدارس لأجل مادة التربية العسكرية أو "الفتوة".. ومع سيادة الرائد نقيبان وملازمان ومجموعة صف ضباط "باشجاويش وشاويش وأنباشية" يعني "رقيب أول ورقيب وعريف".. ثم عدة طلاب حصلوا بدورهم على ترقيات محلية حتى وصل واحد منهم إلى باشجاويش" "باتشاويش" المدرسة وكان اسمه على أيامنا "حسن برجل".. الذي يقف لينظم الطابور ثم يعطي التمام لسيادة الرائد أو "الصاغ"، وبعدها يتقدم سيادته نحو القائد الأعلى للمدرسة حضرة الناظر ليرفع يده بالتحية ويعطيه تمام المدرسة، وبعدها ينادي على قارئ الأوامر، وهو طالب برتبة "أنباشي" ليقرأ "أوامر المدرسة الأحمدية الثانوية الصادرة بأمر السيد الأستاذ عبد القادر سليم.. ناظر المدرسة- ثم بند 1 وبقية البنود- وتختتم الأوامر بثلاث كلمات: الله.. الوطن.. بالأمر".

كان اليوم الدراسي طويلا، فيه فسحتان، نتسلم قبيل الثانية وجبتنا اليومية التي توزع في الفصل وتتنوع كل يوم.. وكانت حصص الرياضة البدنية.. والرسم والأشغال والموسيقى والهوايات، وكان مشرفو الأدوار الجبارون من الأساتذة الذين يمضون بالبدل الكاملة مع رباط العنق وفي يدهم اليمنى أو من ورائهم فراش يحمل العصي ويا ويله وسواد نهاره وليله من يضبط خارجا من الحصة أو مزمعا الشغب!

في الأحمدية الثانوية تجمعنا غير مرة لنهتف للوحدة العربية، إذ دخلتها العام الدراسي 58/1959، ونهتف ضد الانفصال ويتقدم بطل رفع الأثقال وكمال الأجسام زميلنا أحمد العجمي ليحاول رفع المتراس الحديدي الذي يغلق باب الحوش المؤدي لشارع المدارس، فيحضر حضرة الناظر ويقف خطيبا ثم يأمر بفتح الباب لتلتقي مظاهرتنا مع مظاهرة طنطا الثانوية والقاصد الثانوية والأقباط الثانوية وعدة مدارس إعدادية فيما بنات "طنطا الثانوية بنات" يحاولن الخروج بدورهن وتعلو أصواتهن من الشبابيك المطلة على ملعب الأحمدية الثانوية، حيث منافسات "الحبيبة"- باء أولى مشددة مكسورة- جمع "حبيب"- باء أولى مشددة مكسورة أيضا- المتمترسين على النواصي أو على أفرع أشجار الملعب وفوق سوره، وفي مقدمتهم الرسام البديع عبد القادر سويلم الذي يحمل كراسة الرسم والقلم الفحم ليرسم وجوه الحبيبات لمن يريد.. وبمقابل بسيط!

كان التفاوت الاجتماعي "الطبقي" واضحا إلى أن تقرر أن يرتدي الجميع ملابس الفتوة، أي التربية العسكرية، وكنا نتسلمها من المدرسة.. بنطلون غامق كحلي وقميص رمادي.. وحذاء "بيادة" أسود وحزام "قايش" بيج غامق وأحيانا يدهن مع "الجتر" الذي يلبس أسفل الساق باللون الأبيض أي باللاكيه الأبيض أو السبيداج!

كان أبناء البيوتات الغنية- كتبت العريقة ثم شطبتها لأن الغنى غير العراقة- يأتون بسياراتهم أحيانا ويلبسون بدلا كاملة ولديهم لبس للرياضة ويحتكرون فريق الهوكي وأحيانا يحملون مسدسات مخبأة في خواصرهم تحت الجاكيتات.. وكان يأتيهم الطعام مع خدمهم وسائقيهم في "أعمدة" مخصوصة، ومع ذلك كان من بينهم من يملك روح ابن البلد صاحب صاحبه والمحب للتبسط ونبذ الفوقية الاجتماعية.. وكانت إدارة المدرسة لا تعرف تمييزا ولا محاباة.. ومن يستحق أن يفتح يديه لتلقي ضربات خرزانة سيادة الناظر أو المشرف على الحوش لا بد أن يفتحها، وإلا نُودي عم عباس الفراش الضخم ليعبطه.. والعبط لمن لم يعرفه هو أن ينقض عباس على المطلوب عبطه فيحمله من وسطه رافعا إياه ولتهوي العصا على مؤخرته إلى أن ينتهي عدد العقوبة.. أو أن يهوي عباس على صاحبنا فيبرك فوقه ليخلع نعليه والجورب "الشراب" إذا كان موجودا ويرفع ساقيه محكما القبضة على الخلاخيل فتهوي العصا غير مبالية بصراخه "معلهش يا أستاذ.. ما عنتش- أي ما عدتش- أعملها"!

مباريات الهوكي والقدم والطايرة والسلة والجمباز ومهرجان سباق بين مدارس المدينة والمديرية- لم تكن محافظات- ومديريات أخرى، ومسابقات في الرسم والموسيقى والصحافة والخطابة ورمي النار، ومظاهرات عند اللزوم، وذهاب إلى مكتبة منزوية في شارع طه الحكيم تبيع سرا "مذكرات إيفا" وصورا عارية.. وخطابات تلقى في طريق بنات طنطا الثانوية وقصص حب ومنافسات ضارية.. ثم جرأة على التزويغ، حيث كانت الصدمة التي بدأت الكلام بها، إذ كنت في أولى ثانوي قادما من الأحمدية الإعدادية بالشورت وعمر 13 عاما ورغبة عنيفة في تقليد الكبار، بدأت بتدخين الوينجز مع المدخنين المتوارين، ثم قفزة باتجاه السور للتزويغ مع الكبار، وبصعوبة بالغة وصل صاحبنا إلى قمة السور وما إن استدار بظهره ليتدلى مرعوبا من السقوط على حجر الرصيف وإذا بيد ترتفع لتساعده على الهبوط الآمن، وما إن هبط حتى وجد أنها يد سيادة مدير عام التربية والتعليم في الغربية ومعه مجموعة من كبار رجال المديرية ومعهم ناظر المدرسة!

كان المدير العام من الشدة واليقظة ومتابعة العمل لدرجة أن بعض المدرسين حرفوا مقطعا من نشيد الله أكبر ليجعلوه: "الله أكبر يا بلادي وكبري.. وخذي بناصية المدير ودمري"، بدلا عن خذي بناصية المغير.. وكان قد تأكد أن طلاب الأحمدية يهربون قفزا من على السور فقرر أن يتجه للموقع بنفسه.. وكان أول صيد يقع في يده هو العبد لله.. وسرعان ما طلب ولي الأمر الذي كان وكيلا لمدرسة طنطا الإعدادية.. ويا وقعة أسود من قرون الخروب!

تلك كانت مدارسنا وتفاصيل يومنا.. فيا لها من أيام.
                              
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 أغسطس 2016.

No comments:

Post a Comment