Wednesday 31 August 2016

الملحمة السوداء في صلاح سالم




بالصدفة ومنذ عدة سنوات عرفت من أحد مسؤولي محافظة القاهرة أن مسجد الرحمن الرحيم القائم في طريق صلاح سالم لم يرخص له بدور مناسبات، إذ كنت قد تأخرت عن لقاء يفترض أن أكون أول الواصلين باعتباري صاحب الدعوة، وقدمت اعتذاري وشرحت كيف اضطرت السيارات أن تحول مسارها وترتد في الاتجاه المعاكس، لتجد "تخريمة" تتفادى بها الانسداد الذي ترتب على تراكم السيارات لعدة صفوف بجوار المسجد حتى أغلق الطريق تماما.. وكان أحد المدعوين هو ذلك المسؤول في المحافظة آنذاك.. ويبدو أن الأمر استفحل حتى تم إنشاء سور حديدي هائل يفصل بين الشارع الفرعي المحاذي للجامع، ووضعت الفواصل الحديدية المكتوب عليها مرور القاهرة خارج السور، ثم تم وضع "ونش" وعدة رجال شرطة لمنع اصطفاف السيارات، ومع ذلك لا فائدة!

وبعد مسافة من ذلك المسجد يقع مسجد الشرطة، حيث القبة المصممة على شكل قنبلة يدوية ونهاية المآذن على شكل طلقة رصاص، وفي الشارع الجانبي المجاور لمسجد الشرطة تقع إدارة المرور، وقبله بمسافة بسيطة يقع منزل كوبري البعوث الإسلامية، حيث تنزل السيارات مندفعة أحيانا وبطيئة غالبا لأن صفوف السيارات وأعداد المشاة العابرين بدون أية إشارة وبدون خطوط مرور المشاة وبدون أي تنظيم من الجهات المسؤولة أعداد كثيفة، وكم حدثت حوادث دهس بالسيارات واصطدام وكم وقعت مشاحنات ومشاجرات بسبب خلل نظام سير السيارات وعبور المشاة وتنظيم الجنازات وتوافد المعزين للقاعات المخصصة للعزاء؟!

وعلى الجهة المقابلة يقع مسجد أبو المكارم الزغل البعيد نسبيا عن الطريق الرئيسي، ولكن نشاط العزاء فيه وحركة سيارات المعزين تؤثر على المسار في صلاح سالم، الذي يمر بعد ذلك على عدة دور تحمل أسماء بعض أسلحة وإدارات القوات المسلحة، وفيها أيضا تقام المناسبات المفرحة من أفراح وأعراس وعزومات!

هذا هو حال أحد الشرايين شديدة الأهمية في حركة المرور بالقاهرة، التي يزداد طينها بللا في الشارع نفسه عندما يتوزع بعد مسجد الشرطة بمسافة يسيرة إلى ثلاثة مخارج الأيمن يؤدي إلى شارع الجعفري ومشيخة الأزهر ودار الإفتاء، والأوسط تدخل منه إلى نفق الأزهر، والأيسر يستمر بك إلى أن تصل لحديقة الأزهر ذات الصيت الذائع، ويبقى نهارك بلا نهار إذا تصادف وكنت في تلك المسافة في الفترة من بعد الظهر إلى المساء، حيث تتكدس السيارات وتبدأ الفهلوة والحرفنة في فرض نفسيهما، إذ تأتي السيارات وخاصة نصف النقل والميكروباصات من أقصى اليمين لتقطع طريق الملتزمين بخط سيرهم متجهة إلى أقصى اليسار باتجاه القلعة، فتسد مدخل النفق ويعلو صوت آلات التنبيه وتتدفق وصلات الردح، وخاصة من المعتدين الذين تكون أول صيحاتهم.. "إيه.. في إيه.. عاوز إيه.. يعني اخبطك.. أنا عربيتي شوية صاج بشلن.. وممكن أعورك"!

نحن أمام لوحة شديدة الدلالات.. فالمساجد لله في الأساس وجعلت لإقامة الصلاة.. والأصل فيها البساطة واليسر.. إلا أنك تكتشف حجم الفخامة وغزارة الإنفاق الذي لو خصص لحل مشاكل التعليم والصحة والإنتاج لساهم في تحقيق أصل الأصول، وهو مساعدة خلق الله على أن يجيدوا مهمة الاستخلاف في الأرض.. وطبعا فإن الشكر والتقدير والدعاء موصول لكل من أنفق من ماله في هذا الشأن، لكني أسأل أهل الذكر لأنني لا أعلم: هل يجوز أن تخالف المساجد القانون وتمارس أنشطة لم يرخص لها بها؟! وهل من الدين أن تتحول المساجد إلى سبب من أسباب استحالة الحياة السليمة للبشر، وهل يجوز أن يستمر الوضع على هذا النحو بدون أي حل؟!

إننا نتكلم عن قانون موحد لدور العبادة تتساوى فيه الأماكن التي يذكر فيها اسم الله، ولتكون كلها مصدرا للمحبة والسلام واحترام القانون وترشيد سلوك البشر، ولابد أن نتطرق وأن نناقش وأن تحسم الدولة هذا الوضع، كي لا تصبح كلها مساجد ضرار بصرف النظر عن نية ومقصد من تطوع خيرا ببنائها والإنفاق عليها.. إذ ما الضرار إلا أن يكون تحويل هذا الخير إلى مصدر يهدد حياة الناس وينسف احترام القانون؟!

ثم إن مشكلة الانفجار الصوتي عبر مكبرات الصوت مازالت تتفاقم، وأذكر هنا أن بعض الذين وضعوا مدخرات حياتهم في شراء مسكن بمكان ظنوا أن فيه بعض الهدوء المفتقد في القاهرة، يقفون عاجزين أمام الإصرار على وضع ثمانية أو عشرة مكبرات صوت في مئذنة واحدة.. ثم ينطلق الصوت الخالي من أية نداوة أو حلاوة لينزل الرعب في قلوب المسلمين، لدرجة أنني مثلا ذهبت إلى المسجد لأصلي العشاء وسألت عمن رفع الأذان وسألته عما إذا كان قد سمع الآية التي تقول "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" (الإسراء 110)، وعما إذا كان قد عرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون بلال هو المؤذن، لأنه أندى صوتا.. وعما إذا كان من الضروري الزعيق بأعلى درجة من صوت أجش خشن متحشرج عبر أعلى درجات للميكروفونات الثمانية خاصة أن هناك عدة مساجد مجاورة وأن عدد القاطنين قليل جدا؟!

وجاءتني الإجابة التي ظن صاحبها أنها مفحمة: "طيب إحنا مابنشوفكش في الجامع ليه"؟! وقد ظن أن من يتردد على المسجد الذي يؤذن حضرته فيه هو وحده الذي من حقه أن يتساءل أو أن يتكلم!
ومن الآخر كما يقول ولاد البلد.. أشك أن يتدخل المسئولون في تلك الملحمة المأساوية بطريق صلاح سالم، إذ من سيقول للشرطة نظموا الأوضاع حول مسجد الشرطة.. أقيموا كوبري مشاة أو نفقا أو انقلوا المناسبات من تشييع وعزاء إلى مسجد المشير طنطاوي، أو أقيموا مسجدا آخر للشرطة في منطقة براح أوسع، ومن سيبحث في مدى قانونية قاعات المناسبات بمسجد الرحمن الرحيم، ومن سيطلب استحداث ممرات فرعية محددة بأرصفة فاصلة عن الطريق الرئيسي أمام الدور التي تحمل أسماء أسلحة وإدارات تابعة لجيشنا العظيم؟!
                                
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 31 أغسطس 2016.

No comments:

Post a Comment