Thursday 18 August 2016

من غير "حفلطة"




يواصلون تعميم فساد المعايير.. والضمير هنا عائد على حزمة تضم الإخوان والزاعمين بالمرجعية الدينية، ومعهم ـ ويا للعجب ـ خلطة من الليبراليين والقوميين والماركسيين.. وكلما ازداد تسارع مضي الأيام باتجاه الانتخابات الرئاسية ومعه ازدياد تسارع إيقاعات الأداء في محاربة الفساد وفي استنهاض همة الأمة وفي الوضوح والشفافية بإعلان حجم وعمق المشاكل، ثم مدى مرارة وصعوبة الدواء، ازداد بالتالي الإصرار على فساد معايير تقييم الأمور، وكما وضعوا "الحلال والحرام" بدلا عن "الصح والخطأ" وضعوا "مدني وعسكري" بدلا عن "كفء وعديم الكفاءة".. ثم ويا للعجب ثانية نجد أن من يمعن في تعميم وشيوع هذا الفساد هم من يعتبرون أنفسهم "نخبة النخبة"، وفيهم من يسعى الآن لتجسيد الشخصية الكاريكاتورية التي أبدعها العبقري الراحل مصطفى حسين.. شخصية "عبده مشتاق"، وعرفنا عبر الإعلام أن بعضهم بدأ في تشكيل فريقه الانتخابي، ثم استشففنا عبر المقالات الصحفية من الذي يراوده الأمل فكتب عن الستين عاما السوداء "أي ثورة يوليو وعبد الناصر وإلى الآن"، ومؤخرا قرأنا عن الذي يدعو لمجلس رئاسي مدني!

ورغم أنني لا أخفي تأييدي لعبد الفتاح السيسي منذ بداية ترشحه، وقد كان تأييدا ساخنا مشفوعا باشتباكات من هنا ومن هناك، خاصة أن المنافس كان من الاتجاه السياسي نفسه الذي أصنف فيه، إلا أنني لا أخفي أيضا أنني لست بصدد الكلام عن فترة رئاسية ثانية للرجل، ولست بصدد الانخراط في جوقة تضم من يجعلون المرء يفر منهم فراره من الطاعون!

وما أنا بصدده هو الوقوف بحسم وحزم ضد من لا يزالون يعمقون تمزيق الجسد الوطني وطعن وجدانه بهذه المعايير الفاسدة، وأن نعمل على إعادة الاعتبار لما هو صحيح.. أي أن نعود إلى "كفء وعديم الكفاءة" و"صح وغلط" و"قانوني ومخالف للقانون" و"دستوري وغير دستوري" ثم "منهجي ومنطقي وعلمي" وليس "استهبال على شيطنة على هزار".. هكذا وبالبلدي الفصيح!

ولذلك سواء رشح الرئيس الحالي نفسه لفترة رئاسية ثانية أم لم يرشح، فإن المعيار الذي يجب أن نعتمده تجاهه وتجاه أي مرشح محتمل "هو كفء أم غير كفء".. وفي هذا الصدد لابد من لفت النظر وبقوة إلى أن قياسات الكفاءة قياسات متعددة في المستوى وفي النوع، ويعرف ذلك أهل الذكر من المتخصصين، غير أنني إضافة لتلك القياسات أود أن أميز بين حسابات البقالة بالجملة وبالقطاعي، وبين حسابات التاريخ.. فالأولى قد يجريها البقال نفسه عندما كان يكتب ويسجل بالقلم "الكوبيا" بعد أن يبلله بطرف لسانه على الورق الداكن السميك المخصص للقراطيس، أو بالآلة الحاسبة والكمبيوتر مثلما هو الحال في الهايبر ماركت وزملائه، كم كمية وكم صنفا دخل وبيع والسعر والغلة وماذا تبقى في المخازن وعلى الرفوف وإلى آخره، أما الثانية أي حسابات التاريخ فإنها في البداية مرتبطة ارتباطا وثيقا بحسابات الجغرافيا التي هي بدورها طبيعية "تضاريس ـ مناخ ـ طقس وغيره"، ثم اقتصادية وسكانية، وسياسية واستراتيجية، وفيها قد نجد فراشة رفرفت بجناحها الضعيف الضئيل في غابات الأمازون، وانتقلت موجات الرفرفة محكومة بعوامل أخرى كالرياح والتيارات البحرية وخلافه لتصل إلى الجانب الآخر من المحيط وقد تحولت إلى تسونامي رهيب!.. وهكذا ودونما مبالغة يعمل قانون التراكم الكمي ومعه التغير الكيفي عمله في حركة التاريخ، لنجد مثلا أن اكتشاف العبث في كمية توريد قمح ناتج عن حقل فلاح صغير في الغربية أو المنوفية، هو ما أدى إلى تسونامي التصدي للفساد في منظومة توريد القمح بأكملها.. ثم إن لدنيا نموذجا آخر عشناه وقد بدأ بكلمة مناشدة للمصريين أن يساهموا في تكاليف مشروعات قناة السويس، أي المجرى الجديد وما حوله وما تحته من مشاريع، وتحولت الكلمة إلى تسونامي تبرعات عجلت بقفل باب تلقي المال لأن المطلوب قد تحقق وزيادة!

وبحسابات البقالة ستجد من يتكلم ويتشنهف على الخسارة التي حققها المشروع، وعلى التسرع في القرار وهلم جرا، أما حسابات التاريخ فستتوقف أول ما تتوقف عند حالة استنهاض الهمة الوطنية لنقلها من حضيض الفوضى وغياب الثقة وفقد الأمل إلى سيمفونية عمل متكاملة.. فالملايين أخرجت من جيوبها واقتطعت من أقواتها، والآلاف اتجهت لتحفر وتنقل نواتج الحفر وتجري كل القياسات العلمية، وأيضا كان الجنود يحمون العمل وهو ملاصق تماما لبؤرة الإرهاب في سيناء.. وغير ذلك كثير على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي ارتبط بالمشروع.. هذه هي حسابات التاريخ..

ولو أنني استطردت في قراءة ما جرى عبر السنتين الفائتتين بمعايير حسابات التاريخ فسيظن المشتاقون وجوقاتهم أنها عملية تمهيد متعمدة للحديث عن رئاسة ثانية للرئيس السيسي، ولذلك أعود إلى أصل الموضوع لأؤكد أن معيار الكفاءة والالتزام بالدستور والقانون ومقاومة الخطأ بالمعنى الشامل، حيث الاستبداد خطأ والفساد خطأ والإهمال خطأ ونهب المال العام خطأ والاحتكار خطأ وطغيان رأس المال وتوحشه خطأ.. تكون كلها الأساس لاختيار المسؤول ابتداء من رئيس الجمهورية ونازل!

ثم إنني ومن باب الطرافة التي أتمنى ألا تكون استظرافا في غير موضعه أقسم أن بعض عتاة "المدني" لا يعدون أن يكونوا شاسيها معتبرا عني صاحبه برشاقته ونعومته وأناقته واعوجاج لسانه وتزرير جاكتته ولمعة جزمته، ويقدم نفسه أو يقدمونه باعتباره فلتة زمانه وعبقري أوانه.. وإذا بك بعد دقائق من الإنصات إليه باهتمام يليق أولا بكل ما سبق، ثم تبدأ حضرتك في البحث عن طريقة للفرار، إما بأن تسأل عن بيت الراحة أو تصطنع أنك رأيت عزيزا عليك قادما فهرولت لاستقباله، هذا إذا أردت ألا تفعل ما فعله الشاب مع توسكانيني الفنان، إذ جلس الشاب منصتا ومراعيا لكل آداب الجلوس فإذا بالفنان يفعل ويقول ما لا يرضي أحدا وعندها قال الشاب: "بالنسبة لتوسكانيني الفنان فإنني أنحني وأخلع قبعتي.. أما بالنسبة لتوسكانيني الإنسان فإنني أنحني وأخلع حذائي"!

كفى تمزيقا للوطن جسدا وقلبا ووجدانا بحكاية مدني وعسكري.. ومن عنده كفاءة ويرضى عنه أصحاب الأصوات فليتفضل من غير حفلطة.
                        

نشرت في جريدة الأهرم بتاريخ 18 أغسطس 2016.

No comments:

Post a Comment