Wednesday 12 October 2016

مئوية ميلاد الشيخ عوف




صمد للعصا الجريد "من جريد النخيل" ولتقشير عيدان البوص، وكنس الأرضية الطينية لدار وكتاب - مكتب تحفيظ القرآن - سيدنا، فأفلت مما لم يفلت منه معظم أقرانه ومنهم أخواه الأكبر منه والأصغر، إذ لم ينتظم في الذهاب للغيط ساحبًا البهائم في الصباح المبكر وعائدًا بها عند الغروب، وإن لم يعفه حفظ القرآن الكريم والانتظام في المعهد الأزهري من المساعدة في الفلاحة، فعرف كيف يمسك بالمحراث ويخطط الأرض، وعرف كيف وأين تبذر البذور ومواعيد الري، وأجاد ركوب الخيل، وأتقن كيفية فرز ما سيشترى من أنعام من سوق المواشي!

أتحدث عن أبي، الذي مرت مئوية ميلاده يوم 8 أغسطس، ولم يكن لي أن أتذكرها إلا بعد أن نشر أخي الأصغر عصام صورة للوالد بمناسبة مئوية ميلاده في عام 1916، وهو مثل ملايين الآباء من الفلاحين وغير الفلاحين، غير أن إلمامي بكثير من ظروف الميلاد والنشأة والمسار قد تكون سببًا كافيًا لكتابة كاتب عن أبيه!، وإشغال القارئ بما قد لا يفيده!

كان الحفاء هو السائد، ولذا كانت ضخامة القدم وسمك جلده وتشقق الكعوب سمة سائدة عند الجميع، نساء ورجالاً، وكانت النساء تتغلبن على ذلك بالشمع الإسكندراني والحجر الخفاف، الذي كان اسمه الشائع في منطقتنا وسط الدلتا آنذاك "الكحكيحة" - من حك الجلد - وكان مصدرها هو قمائن حرق الطوب، حيث تصل الحرارة المتلظية في الفحم الحجري المشتعل في قلب وجوانب القمينة لدرجة تصهر بعض قوالب الطوب النيئ المصنوع عادة من خلطة الطمي والتبن والروث والماء، ثم يصب الخليط الطيني الطري في قوالب خشبية مقاسها الشائع آنذاك هو حوالي 22 سنتيمترا طولاً واثني عشر عرضًا وسبعة ارتفاعًا، وكانت أشهر مصانع الطوب الأحمر - أي المحروق - تقع على شاطئ فرع رشيد وخاصة في قرية الفرستق، وبعض المصانع تختم كل طوبة بخاتم غائر يحمل اسم أصحاب المصنع، ومن أشهرهم على أيامنا "موسى ومكاوي عيسى"!، وقد لحقت الألف طوبة وثمنها "وصال" - أي مع النقل - ثلاثة جنيهات إلا ربع!

وكانت الأحذية التي تلبس لمن يملكون ثمنها تبدأ "بالحدوانة"، وهي مداس أقرب للشبشب الذي في مقدمته دائرة لدخول إبهام القدم.. ثم "البلغة"، وهي أنواع أشهرها ما كان يصنع في "فاقوس"، تليها الإسكندراني، وبعدها ما كان يصنعه الجزمائية المحليون في كل قرية.. وفي القمة يأتي "المركوب" ومنه "المركوب النجمي"، الذي اشتراه جدي الحاج محمد لابنه الذي سيتجه بعد أيام للمعهد الإبراهيمي - نسبة لسيدي إبراهيم الدسوقي - الأزهري في دسوق، التي تقع شمال قريتنا بحوالي اثني عشرة كيلو مترا!.. وذهب عبد الرحمن وكان اسم شهرته "عوف"، وأصبح بعد حفظ القرآن والقبول بالمعهد "الشيخ عوف"، وبعد دخوله بسنة تقريبًا، كان عليه أن ينتسب لمذهب فقهي يتلقى دروسه في باحة المسجد الإبراهيمي فاختار مذهب الإمام مالك رضي الله عنه.. وبالصدفة خدمه هذا الاختيار فيما بعد إذ كان أحد عوامل تسهيل قبوله خطيبًا أو مشروع عريس لمن كان والدها عمًا لأبيه، وكان كبير العائلة "الجمالين"، لأنه كان فقيهًا وتاجرًا، وعندما جلس عبدالرحمن ينتظر استيقاظه من قيلولته ليتلقى منه دروسًا في الفقه، إذا بالصغير يفاجأ بسؤال مباشر بعدما صلى العم الكبير العصر وسلم التسليمة الثانية:

من أنت؟ فأجابه، ثم: في أية سنة دراسية فأجابه: ثانية ابتدائي في معهد دسوق.. وكان السؤال الثالث: "ما مذهبك فأجاب من فوره "مالكيا"، وجاءت انفراجة التجهم.. طيب.. الله يفتح عليك.. أنا أيضًا مالكي!

في دسوق التي كانت تعز المواصلات إليها فيقطع الناس الكيلو مترات مشيًا حفاة، أو على ظهور الدواب سكن الشيخ الصغير في حجرة مع أقرانه، وأول ما قلدهم فيه هو دق عدة مسامير في الحائط الملاصق للكنبة البلدي التي سينام عليها.. مسماران لفردتي المركوب النجمي.. ومسمار للكاكولة ومسمار للعمامة، التي علمه كيف يلفها أحد القدامى بأن يضع الطربوش المغربي الأحمر ذي الزر الأزرق على ركبته المثنية ثم يفرد الشال الأبيض ذي الشراشيب الدقيقة ويلفها على الطربوش دائريًا فوق ركبته ثم يفرد الشراشيب بأطراف أصابعه المبلولة بلعاب خفيف!

وكانت معظم المعاملات عينية.. يعني صحون الصاج المغطى بالمينا الملونة ودوارق الزجاج الشفاف والملاعق المعدنية طويلة اليد وأكواب وبرادات الشاي الصاج المغطاة أيضًا بالمينا تشترى مقابل أرز أو ذرة أو ردة!.. ولذلك كانت النقود شحيحة وكان الريال والبريزة والشلن والنصف فرنك والقرش صاغ الأحمر المشرشر أو المخروم والتعريفة ونصف التعريفة أي مليمين ونصف، ثم المليم الأحمر.. وكلها ملك.. وكتابة والملك إما حسين كامل.. أو فؤاد أو فاروق!

وكانت "المرأة الحديدية" المتحكمة في اقتصاد الدار كله هي الحاجة حليمة، التي طالما كتبت عنها، وكان الشيخ الصغير ينبؤها بموعد سفره لدسوق ومن بعدها طنطا، حيث أهم المعاهد الأزهرية في المحروسة كلها "المعهد الأحمدي"، الذي حصل منه على الثانوية الأزهرية.. فلما ينبؤها تعد السلالي "السلة" المصنوعة من شقائق نبات البوص وفيه "الزوادة"، ثم تخرج المنديل المعقود على الفضية، وتبدأ في فرزها إلى أن تصل للبريزة، أي عشرة قروش وتنفحه إياها، فيظهر الرضا والرجاء والزعل على وجهه، فلا تعيره انتباهًا، ويحمل "السلالي" ويمضي أسفًا فما أن يبتعد قليلاً في السكة الضيقة التي تحدها البركة "المستنقع" من جانب ومقابر أبو الفتح من جانب آخر حتى يسمع صوتها تنادي عليه بعزم قوتها: "تعال"!.. فيعود لتفك عقدة المنديل وتفرز الفضة ثانية وتمنحه شلنا إضافيا فيقبل يدها القمحية المخضبة بالوشم الجميل! ويتجه لدسوق وهو ونصيبه إذا كان موعد مرور "الشركة"، أي الأتوبيس الذي كان يمر مرة أو مرتين حسب الظروف وأحيانًا لا يمر بالأيام، إذا كان وحل الشتاء قد غطى الطريق الترابية الممتدة من طنطا إلى دسوق!

فإذا لم يمر يأخذها مشيًا إلى قرية محلة دياي بلد الشيخ دراز ليستقل مركبًا "سفينة" شراعية متجهة إلى دسوق مرورًا بقرى الصافية وكفر مجر ومحلة أبو علي ودمنكة ثم دسوق، وحيث تظهر على البر الغربي مدينة رئيسية هي شبراخيت وبعدها مجموعة قرى أبرزها قرية كبيرة هي "مَرْقَص" - ميم مفتوحة وراء ساكنة وقاف مفتوحة - حيث ضريح سيدي أبو المجد والد سيدي إبراهيم الدسوقي!

وعند عودته في الإجازة الكبيرة من دسوق يكون مولانا الصغير قد ادخر من البريزة والشلن ما يكفي ليحمل عند عودته كمية مما اشتهرت به دسوق: الفسيخ والسردين.. والحلاوة الشعر - وهي نوع من الحلوى شديدة الحلاوة، هش الهيئة أقرب إلى غزل البنات، وتشتهر بصناعته أسرة الصردي، وأيضًا الحلاوة الطحينية التي كانت تباع في علب من الصفيح اللامع وكل علبة حسب وزنها، وأحيانًا عيدان قصب السكر وخاصة من سلالة "خد الجميل"، الذي كان عوده طويلا ضخما وقشرته الخارجية "مقلمة" بلونين الأحمر القاني والأبيض الكالح!.. ولذلك سمي "خد الجميل"!

ونجح الشيخ عوف في المرحلة الابتدائية كلها، لينتقل إلى طنطا حيث معقل العلم والثورة في المعهد الأحمدي الذي كان هو ومعهد الزقازيق وحدهما يضمان المرحلة الثانوية الأزهرية.. في الدلتا والوجه البحري.. وكان معهد الإسكندرية بعيدا إلى حد كبير!

وفي طنطا وصل الشيخ عوف للسنة الرابعة الثانوية فقرر أبوه الحاج محمد أن يزوجه من تلك الفتاة التي سألها أبوها زمان عن مذهبه، وكانت وحيدة على ستة أشقاء ذكور عدا عن أخين غير شقيقين كانا أسبق في التعليم، أحدهما كان رئيس المحكمة الشرعية بالإسكندرية، والثاني استقر به المقام في أسيوط ليؤسس فرعا جماليا كبيرا هناك، وله قصة تستحق أن تسجل لأن فيها طرفا من سيرة ثورة 1919 ومن سيرة بهي الدين باشا بركات وأخيه فتح الله باشا بركات!.. وتزوج الشيخ من أم أولاده.. أمي، وكان عمرها ثلاثة عشر ربيعا عام 1940 وعاشا زوجين حتى وفاته عام 1988 وبقيت مرحلة القاهرة، حيث كلية الشريعة والحصول على الشهادة العالية، ثم العالمية والتخصص في التدريس والتلمذة على أفذاذ عظام.. الشيخ محمود شلتوت والشيخ أبو العيون والشيخ اللباد والد الفنان الصديق الكبير محيي الدين اللباد رحمة الله على الجميع!!

ولأن المساحة ضاغطة، ولن تحوز القصة مساحة مماثلة لغيرها من القصص فإنني أتوقف متضرعًا لله: رحمة الله عليك يا أبي.
                                

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 أكتوبر 2016.

No comments:

Post a Comment