Thursday 16 November 2017

سلام على الشقيانين الصامدين




كلما تذكرت ذلك المشهد ندمت وحزنت.. وجددت العهد مع نفسي على ألا أكرره.. فقد كنا في العطلة الصيفية نهبط من مدن إقامتنا في طنطا أو دسوق أو الإسكندرية والقاهرة إلى قريتنا في عمق الدلتا، ويتم الترحيب بنا ثم يبدأ الانتظام في طقوس الأجازة، الجلابيب البيضاء النظيفة المكوية.. والأكل الطيب الذي لا يخلو من لحم ذوات الأربع أو "الظفر"، أي الطيور، والأرز المعمر أو السمك، والفطير المشلتت والعيش الطري والقرص المعجونة باللبن والزبدة، وطبق البيض والقشدة والجبن القريش والعسل الأبيض!!

وتنعقد جلسات العصاري الممتدة حتى وجبة العشاء، وهي الوجبة الرئيسية في ريف مصر، حيث يجلس بعض الكبار على الكنبات ذات الشلت ويتوزع الباقي على الحصير الملون، فيما الموقد "وابور الجاز" شغال بدون توقف تحت براد الشاي "البكرج".. ودورات توزيع الدخان اللف أو الماكينة تتوالى.. والمناقشات تتوزع وتتنوع بين أحداث جارية ومسائل فقهية وأخرى خاصة بالزراعة والقلاعة، وأحيانا النوادر والنكت والمواقف النادرة!.. وعند دخول المغرب، أي آخر النهار، يبدأ توافد من كانوا طوال يومهم ومنذ ما قبل طلوع الشمس يهلكهم الشقاء بين نقاوة دودة قطن.. وشتل أرز وبين تكسير عيدان الذرة للبهائم ونفش العلائق الجافة أمامها.. وبين ري وعزق وتقصيب ونقل للردم وللسباخ "السماد البلدي، الذي هو الروث مخلوطا بالردم والتبن!!"، وبعد إدخال البهائم للزرائب يأتون للجلوس على أطراف المكلمة المنصوبة، وفي كل مرة لا يفلتون من التعليقات العجيبة التي أدركت فيما بعد أنها كانت فجة لا إنسانية.. حيث يأتي أول تعليق على هيئة سؤال استنكاري: "غسلت إيديك يا فلان؟!".. أو "صليت النهاردة يا علان؟!" أو "خللي بالك من البلهارسيا يا ترتان ولا تنزل مياه الترعة كثيرا"! أو "لا تنسى أن تسقي الجاموسة والبقرة كل شوية حتى وإن كانت دايرة في الساقية"!!.. وتأتي صواني العشاء عليها خيرات الخالق، فيؤثر أهل الشقاء أهل الثرثرة والثفاء ليتقدم الأخيرون إلى دوائر الصواني، فيما هم أي الأولين، يمدون أيديهم على استحياء لأنها متشققة أو "مقشفة" وأظافرها سميكة مسودة النهايات!! ويكاد المشهد مع بعض التصرف يكرر نفسه الآن.. حيث الشقيانون المقاتلون المحشورون في سواتر الرمل والشكائر والخنادق، والآخرون الصامدون في المصانع والمعامل وسفن الصيد، وفي كل أماكن العمل الشاق والإنتاج الجاد، منصرفون إلى مهامهم في صمت ويبذلون الأرواح والدم والعرق والجهد الذهني والبدني للدفاع عن الوطن ولإعماره، فيما السادة المنظرون المقعرون والناشطون وأيضا الخبراء في كل شيء وإلى جانبهم مقدمو البرامج إياها أصحاب المرتبات بالملايين، يخرجون على الأمة وعلى الشقيانين والصامدين، وهم يرتدون أفخر ما عندهم من ملابس وساعات وسلاسل وأحذية لامعة من فصيلة "بالّي" وشركاه وأربطة عنق "كرافتات" تنادي على نفسها أنها ماركة عالمية مشهورة.. ليقولوا للورد أنت فيك شوك، ويبدأوا في ترتيل ما استعدوا له من فتاوى وافتكاسات في كل مجال!!

إنني مازلت أذكر ما جرى على الهواء ذات مرة منذ فترة، عندما جلس أحد خبراء حقوق الإنسان، إثر وقوع حادث رفح الثانية، وبدأ ينظر في حتمية أن يتم تأجيل تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد أعضاء الجماعة الإرهابية لمدة ثلاث سنوات، وأخذ يفصل ويؤصل إلى أن جاءت مداخلة من والد أحد جنودنا الشهداء، وتكلم الرجل بألم شديد وحسرة عن ابنه الشهيد، الذي كان قد أنهى خدمته وعاد ليسلم مهماته ويصرف مكافأته ليتزوج، وتم اغتياله مع زملائه وهم هابطون من الأتوبيس!!، وسأل الوالد المكلوم ذلك "الأستاذ الحقوق إنساني" المشهور عما إذا كان هو أو أحد من أولاده دخل الجيش أو قدم أي جهد للوطن يتساوى مع ما قدمه هو وابنه وبقية أولاده، أم أن حضرته قد نام الظهيرة جيدا بعد أن تغدى غداء يليق بمكانته، ثم تحمم وتعطر وجاء ليفرط في حق الشهداء، بل وليقوض العدالة بطلبه أن يتم تأجيل تنفيذ الأحكام لسنوات ثلاث، كانت هي المدة المتبقية من فترة رئاسة الرئيس السيسي!.. ثم وجه الأب المكلوم كلمة يعدها البعض نابية، سب بها أم حقوق الإنسان!.. وآنذاك كتبت في هذه المساحة مقالا حول ما جرى تسبب في قطيعة طويلة بين ذلك الأستاذ وبيني، لأنه اتهمني بالبذاءة!!

ومنذ سنين تشغلني مسألة أو معضلة الفجوة بين الشقيانين والصامدين الباذلين للروح والدم والعرق والجهد الذهني والبدني دفاعا وخدمة لهذا الوطن، وبين أهل "المنجهة" أو التميز الكلامي القوي المنمق الذي كثيرا ما يأتي خلوا من أي مضمون يستنهض همة الأمة، ويعلي من شأن الشقيانين الصامدين!.. لأنها فجوة لابد أن تردم، ومن أسف، وأكرر الأسف أن أضطر للاستشهاد بما فعله الصهاينة قبيل احتلالهم لفلسطين وإقامة دولتهم، حيث كانوا يوزعون المهاجرين القادمين في الكيبوتزات والموشافات، وكان الجميع يعملون ويختلط عرقهم بالأرض فيما البنادق معلقة على أكتافهم أو ظهرهم، وبمن في ذلك أساتذة الجامعات والأطباء وكل البشر مهما كان قدرهم ومكانتهم ومهنتهم، وكان المضمون المقصود هو أن من يبذل جهده وعرقه لفلاحة الأرض الحصباء القاسية، ويحميها لن يسمح بالتفريط فيها!

ولذلك وعلى ذلك وبذلك، كم أود أن تنتظم دورات للحراسة والعمل المضني يلتزم بأدائها كل أهل الكلام، ويعرفون معنى الشقاء في الأرض والمصنع والمركب، ومعنى أن ينام المرء مهدودا من إرهاق العمل، حتى الطعام لا يستطيع أكله من شدة التعب..

سلام على كل من يبذلون الروح والدم والعرق والجهد الذهني والبدني في سبيل عزة وكرامة وحرية هذا الوطن.
                             

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 16 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment