Wednesday 8 November 2017

انعطافة إلى اليمن




قيل عن روما.. كل الطرق تؤدي إلى روما.. وقيل عن صنعاء لا بد من صنعا - بدون همزة - وإن طال السفر، وقد كان من حظي أن أزور روما عدة مرات، بعد أن درست تاريخها ضمن شهادة العصور القديمة في قسم التاريخ بآداب عين شمس، وكان أستاذي للتاريخ الروماني هو الأستاذ الدكتور سيد أحمد الناصري، رحمه الله رحمة واسعة، وكان منتدبًا من آداب القاهرة، ولا أدري حتى هذه اللحظة لماذا كان تخصص التاريخ القديم، عمومًا، شحيحًا في عين شمس، لذا كان ينتدب لتدريسه أساتذة من الخارج، كنجيب ميخائيل وعبد العزيز صالح وعبد المنعم بكير وجمال مختار في تاريخ مصر القديمة، وسيد الناصري في الإمبراطورية الرومانية، بينما كان لتاريخ الإغريق والبطالمة فرع عنه أساتذة في عين شمس، على رأسهم إبراهيم بك نصحي، ومن بعده مصطفى كمال عبد العليم وفاروق القاضي!!.. وعرفت أن روما لها حكاية أسطورية تقول إن مؤسسها هو رومولوس، وأن ذئبة رمادية اللون أرضعته هو وتوأمه روموس، ثم إنني زرت صنعاء مرات بغير حصر، ولي فيها وفي بقية اليمن صداقات تعد الآن تاريخية بحكم قدمها، وبحكم أن بعض أصدقائي صاروا بعد رحيلهم مفردات لا يمكن أن يخلو منها التاريخ اليمني المعاصر، لأنهم شاركوا بقوة في الصراع السياسي واستشهدوا.. بعضهم استشهد على يد الجلاد الوحشي علي عبدالله صالح، والآخر اغتيل وهو في أوج سعيه للمصالحة من أجل يمن حر موحد!

ومن المؤكد أن صنعاء أقدم من روما، حيث كانت الحضارات اليمنية القديمة سابقة على الحضارة الرومانية، غير أن الزمن لم يخدم صنعاء كما خدم روما.. والشاهد هو أن تنظر إلى كليهما الآن لتعرف كم أن الزمن بواسطة البشر غدار!، إذ تعرضت روما لصراعات وهجمات وغزو، وكان الأفدح هو دخول القبائل المتبربرة الهمجية إلى عاصمة الإمبراطورية في الثلث الأخير من القرن الخامس الميلادي، وفعلوا ما فعلوه، لدرجة أن المواطن الروماني اعتبر ما يحدث هو نهاية العالم.. وتكررت الفداحة القصوى في الحربين العالميتين، خاصة بعد أن جنح موسوليني إلى الفاشية! ورغم ذلك بقيت روما صامدة واستعادت حيويتها، وها هي الآن لا تزال محتفظة بجاذبيتها وألقها.. أما صنعاء فلم تكتسحها جحافل القبائل الغازية المتبربرة، ولكن الذي اكتسحها وفعل فيها ما لم يخطر على بال أشد الشياطين شيطنة، هم قبائلها والقبائل من حولها، والجميع ينتسب إلى الأرومة نفسها وإلى الثقافة ذاتها!

وكلما تابعت الدمار في اليمن الذي هو مذكر واضح، ومع ذلك يخطئ كثير من الكتاب والصحفيين والإعلاميين فيؤنثونه، وجمت حزنًا وتفتت كبدي هلعًا على ملايين الأطفال والنساء الذين تأتي صورهم وبعضهم صار جلدًا مكرمشًا على عظم بارز، وآخرون بلا أطراف بعد أن التهمتها الألغام والقنابل والصواريخ.

تعرفت إلى أصدقائي اليمنيين هنا في القاهرة أواخر الستينيات، إذ كنت التقي بهم في رابطة طلاب اليمن، وبعدها أنشأنا تكوينًا طلابيًا عربيًا ودوليًا اسمه رابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين، التي كانت أحد الأغطية العلنية لتنظيم سري هو تنظيم الطليعة العربية، الذي كنت عضوًا فيه وامتدت عضويته داخل الوطن العربي مغربًا ومشرقًا وشمالًا وجنوبًا، وفي أوروبا والأمريكتين.. وكان النجوم المنظرون في الفكر القومي العربي آنذاك يتقدمهم الراحل الشهيد عيسى سيف، طالب الاقتصاد والعلوم السياسية الذي قتله علي عبد الله صالح، ومعه عدة مئات من أعضاء التنظيم في اليمن!، ومن شدة محبتي ومودتي واقترابي لعيسى وزميله الشهيد عبد السلام مقبل، ظللت لعدة شهور أوقع مقالي اليومي في جريدة الخليج الإماراتية باسم مستعار هو "عيسى مقبل"، الاسم الأول لعيسى سيف، والاسم الثاني لعبد السلام مقبل، وفي الوقت نفسه كان المعنى أن العدل قادم والخلاص قريب، لأن عيسى هو العدل والخلاص!!

وطوال الفترة منذ خروجي الأول من مصر طريدًا شريدًا إثر السجن والوقف عن العمل والجوع والنوم في الحدائق العامة، والطرد من بيوت بعض قادة المناضلين "الوهميين" إلى ما قبل هذا الدمار الدائر الآن بسنة أو سنتين، لم أنقطع عن زيارة اليمن، ولا عن لقاء أصدقائي ورفاقي اليمنيين، الشهيد جار الله عمر، والمغفور له الدكتور عبد القدوس المضواحي، وعبد الملك المخلافي، الشاب البديع الذي كنا فرحين بفكره وطلاقة لسانه وقوة حجته، وهو الآن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وعلي عبد الله الضالعي، ثم تعرفت على الرئيس علي ناصر محمد، وعلى السفير علي محسن وغيرهما من الرموز اليمنية.

وفي صنعاء يسلب لبك المعمار اليمني الفريد في كل العالم بارتفاعاته بدون خراسانات وبألوانه الزاهية وتقسيماته الداخلية، ويا سلام على وجبة الغداء على الموائد التي هي وسط بين الطبلية وبين ترابيزة السفرة، وقد تجاورت الخراف المطهوة ببراعة، وبعدها ينزل القات للتخزين الذي جربته واستطعمته، وفي هذا السياق لا أنسى يوم تغدينا في منزل أحد كبار المسؤولين، وجلسنا أرضًا وامتدت أذرعنا وكان معنا المفكر الكبير الأستاذ الدكتور حسن حنفي، وهو من عشاق الطعام.. وبديهي أن عاشقي الطعام يعرفون فضل رقبة الخروف أو "المنحر"، وقد حدث ولكن الدكتور ونحن من حوله فوجئنا ببلعوم الذبيحة المطهوة ممتلئًا ببقايا غليظة من الحشائش والعليقة، التي كانت تأكلها قبل نحرها.. ويبدو أن الذي ذبحها لم يعطها فرصة لتشرب ماء قبل السكين!

ومن صنعاء إلى تعز كنت والصديق المهندس عبد الحكيم عبد الناصر صحبة في سيارة رئاسية واحدة، ويقود بنا كهل كان برتبة مقدم من تحت السلاح، وكان أحد الذين تميزوا في معركة حصار السبعين يومًا مع الفريق العمري، وبعد أن زرنا قصر الإمام أحمد في تعز، وهو يستحق مقالًا آخر، حكى لنا قائد السيارة عن وقائع "التسييف"، أي قطع الأعناق بالسيف، التي كان يهواها آل حميد الدين، وسمعت قصة استشهاد أحمد الثلايا في الخمسينيات، وكيف أنه عندما أجلسوه لضرب عنقه لعن الجلاد وإمامه، وقال جملة ما زلت أذكرها: "اقتل يا كلب واحسن القتلة.. فغدًا تأكل الكلاب سيدك وتأكلك"، وهوى الجلاد بالسيف البتار وأحمد الثلايا ينطق الشهادتين، فنطق الأولى في لحظته الأخيرة، فيما نطقت رأسه الشهادة الثانية، وهي تتدحرج على الأرض.

إن ما يجري في اليمن عدا عن أنه مأساة رهيبة بكل المعايير، فإنه يستحق التأمل والتفسير، لأن الصراع في اليمن بدأ منذ قرون، ولم ينته، وبالتالي فإن السؤال: كيف لشعب يتسم بالذكاء واللماحية والأصالة أن تستمر المأساة فيه على هذا النحو؟!
                              

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment